تفسير سورة النبأ

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

تفسير سورة سورة النبأ من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني.
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ النَّبَإِ
مكية، وآيها أربعون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) أصله " عن ما " فاتصلت في الخط وحذف الألف؛ فرقاً بينها وبين الخبرية، وإيذاناً بشدة الاتصال وكثرة الدوران. وقرأ ابن كثير في رواية البزي: " عمَّه " بهاء السكت في الوقف؛ ليكون حيراناً عن الذاهب وهو أحد حرفي الثنائي. كان مشركو مكة يسأل بعضهم بعضاً عن أمر القيامة، أو رسول اللَّه - ﷺ - والمؤمنين استهزاء. على أن التساؤل بمعنى السؤال، كالتداعي والترائي بمعنى: الدعوة والرؤية. والمراد: تفخيم شأن المسئول عنه مجرداً عن الاستفهام؛ لوقوعه في كلام من لا يخفى عليه خافية.
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) بيان لشأن المفخم، أو متعلق بـ (يَتَسَاءَلُونَ) و (عَمَّ) بما فسره (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) منهم المنكر له ومنهم الشاك. والضمير للفريقين، المؤمنون يسألون لزيادة الاستيقان والاستعداد له، والكفار استهزاءً وعناداً.
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ردع للمتسائلين هزواً، ووعيد.
(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥) كرِّره مبالغة، وآثر (ثم)؛ دلالة على أنَّ الثاني أشدّ من الأول، وكما فخم شأن البعث فخم ما يقع بعده. وقيل: الأول عند النزع والثاني في القيامة، أو الأول للبعث، والثاني للجزاء.
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وأنتم لا تنكرون شيئاً من ذلك، فإنكار البعث لماذا؟ وهل ذاك إلا على منوال هذا؟. أو من أبدع هنه الأشياء إنما أبدعها لحكمة لا عبثاً، فلا بد من البعث والجزاء. (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) ذكراً وأنثى.
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩) موتاً. منْ السبت وهو: القطع. والنوم أحد الموتين. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) ساتراً عن العيون يمكن إخفاء ما لا يراد إظهاره من بيات العدو، أو الفرار منه إلى أمور شتى.
(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١) وقت معاشكم تتقلبون فيه لحوائجكم. استدل بخلقهم ذكراً وأنثى، واستوفى أحوالهم مفترقين ومقترنين.
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) محكمة لا يؤثر فيها مرور الدهور.
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) أي: الشمس النير الأعظم، من وهجتِ النار: التهبت أو أضاءت.
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ... (١٤) من السحاب التي شارفت أن يعصرها الرياح للمطر. من أعصرت الجارية: قاربت عصر الحيض، أو من الرياح التي حان لها عصر السحاب. وعن الحسن وقتادة رضي اللَّه عنهما: من السموات؛ لأن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنَّ السماوات يعصرن أي. يُمَكّن من العصر. (مَاءً ثَجَّاجًا) منصَبّاً بكثرة، يُقال: ثجَّه، وثجَّ بنفسه. وفي الحديث: " الحجُّ عجٌّ وثجٌّ " أي: رفع الصوت بالتلبية والذكر، وكثرة دماء القرابين.
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا... (١٥) للإنسان. (وَنَبَاتًا) للدواب (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) ملتفة، جمع لُفّ كخُفّ وخفاف، أو جمع لفيف كشريف، أو لَفَّاء كخضراء. أو ملتف بحذف الزوائد. وفيه أن هذا لا نظير له؛ لأن تصغير الترخيم ثابت دون تكسيره.
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) في علم اللَّه. والميقات: ما يؤقت به الشيء، والمراد به: حدّ الدنيا ونهايته، أو حدّ الخلائق وما ينتهون إليه.
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ... (١٨) بدل أو بيان ليوم الفصل. (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) جماعات (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ). والحديث المروي: " أنَّ أمته - ﷺ - تحشر عشرة أصناف " موضوع مختلق.
(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) عطف على " فتأتون "، وإيثار الماضي؛ لكونه محقق الوقوع، أو حال أي: فتأتون والحال أنها قد فتِّحت، والمراد: كثرة الطرق والشقوق، كقوله: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا). وقرأ الكوفيون مخففاً.
(وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ... (٢٠) في الهواء تمرُّ مرَّ السحاب. (فَكَانَتْ سَرَابًا) أي: كالسراب يحسب ماء ولا ماء؛ لأن شأن الجبل الثبات والقرار.
(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) مكاناً يرصد فيه خزنة النار الكفارَ، أو خزان الجنة المؤمنين يحرسونهم إذا مرّوا عليها. (لِلطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢) مرجعاً ومأوى.
(لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) الأحقاب جمع حقب وهي ثمانون سنة. وقيل: دهر طويل كقوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)
والمعنى: يلبثون أحقاباً كثيرة لا يذوقون فيها إلا الماء الحار وغسالة أهل النار وصديدهم، ثم ينقلون إلى نوع آخر من العذاب. وإن جعل (لَا يَذُوقُونَ) استئنافاً فالمراد بأحقاب: دهوراً غير متناهية كلما مضى حقب تبعه آخر، ألا يرى كيف وقع وهم الانقطاع بقوله: (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا). وقرأ حمزة: (لَابِثِينَ) مقصوراً، وهو أقوى وعليه الرسم، وحمزة والكسائي وحفص: (غَسَّاقًا) مشددا.
(جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) أي: جوزوا جزاءً ذا وفاقٍ؛ لأعمالهم أو وصف بالمصدر.
(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) يقال: كذّب تكذيباً وكذاباً. قال سيبويه: الأصلي كذَّاباً والتاء عوض عن التضعيف، والياء عن الألف.
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) نصب على المصدر، أي: إحصاء، أو أحصيناه بمعنى: كتبنا؛ لتلاقي الإحصاء والكتبة في الضبط، أو على الحال أي: مكتوباً في اللوح أو في صحف الحفظة.
(فَذُوقُوا... (٣٠) أي: العذاب. التفت إليهم في مقام السخط؛ زيادة في العذاب. (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) استثناء من الأعم أي: شيئا من الأشياء. وعن أبي برزة الأسلمي: " سألت رسول اللَّه - ﷺ - عن أشدّ آية في كتاب اللَّه على الكفار فتلاها ".
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) مكان فوز من الجنة كما أن جهنّم للطاغين مئاباً، ثمّ فسِّره بقوله:
(حَدَائِقَ... (٣٢) جمع حديقة وهي: روضة ذات أشجار وقيل: روضة أحاط بها حائط. (وَأَعْنَابًا) أفردها؛ لقلة وجودها في أرض العرب.
(وَكَوَاعِبَ... (٣٣) جمع كاعب ناهدة الثدي. (أَتْرَابًا) لدات.
(وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤) مترعة، من أدهقتُ الحوضَ فهو داهق (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (٣٥) أي: لا يتأذُّون من سماع اللغو وتكذيب بعضهم بعضاً. وقرأ الكسائي: " كِذَاباً " مخففاً إما مصدر كاذب، أو كذب نحو: كتبت كتاباً، كقول الأعشى:
فَصدّقَهَا وَكَذَبَتْهُ... وَالمرءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُه
أي: لا يصدر منهم كذب حتى يسمعه السامع.
(جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ... (٣٦) نُصب على المصدر. (عَطَاءً) بدل من جزاء، أو مفعول به، له أو لناصبه المحذوف (حِسَابًا) صفة بمعنى كافياً، من أحسبه الشيء إذا كفاه، حتى قال: حسبي، وقيل: على حسب أعمالهم.
(رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا... (٣٧) بدل من ربك، ورفعه نافع وابن كثير وأبو عمرو على أنه مبتدأ خبره (الرَّحْمَنُ)، أو هو بدل خبره (لَا يَمْلِكُونَ) وقرأ " الرحمنِ " بالجرّ ابن عامر وعاصم على البدل. ومن جرِّ الأول ورفع الثاني أبدل الأول وجعل الثاني مبتدأ خبره (لَا يَمْلِكُونَ) أو خبر محذوف. (مِنْهُ خِطَابًا) أي: من اللَّه، والمعنى: لا يملكون من جهته شيئاً من الخطاب؛ لأن المملوك لا يملك شيئاً على مالكه. وهذا لا ينافي الشفاعة بعد الإذن.
(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا... (٣٨) ظرف لـ " يملكون "، أو لما بعده. والروح: جبريل، وإفراده؛ لشرفه " وقيل: نوع آخر من المخلوقات. وقيل: ملك لم يخلق اللَّه بعد العرش أعظم منه. (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) أي: من تكلم من هؤلاء الأشراف إنما يتكلم بشرط الإذن وقيل: الصواب. ففيه تقرير وتوكيد لقوله: " لا يملكون منه خطابا " (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ... (٣٩) الكائن لا محالة. (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) منزلاً ومأوى بالإيمان والعمل الصالح.
(إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا... (٤٠) إذ كل آتٍ قريب. ولأنَّ ابتداءه من الموت. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي: كل امرئ ينظر عمله خيراً كان أو شراً؛ لقوله: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) وقيل: المرء هو: الكافر؛ لقوله: (إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ) وضع موضع المضمر. وعن قتادة: هو المؤمن؛ لقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ) والأول هو الوجه؛ لقوله، (إنَّ يَوْمَ الْفَصلِ)، ولقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
319
تُرَابًا) في الدنيا لم أخلق، أو في هذا اليوم؛ لما يرى سائر الحيوانات والوحوش تصير تراباً بعد جريان القصاص بينهما.
* * *
تمّت، والحمد للَّه على الدوام، والصلاة على خير الأنام، وآله وصحبه يوم القيام.
* * *
320
سورة النبأ
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (النَّبأ) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بإثباتِ وقوع يوم القيامة، ودلَّلتْ على صدقِ ذلك بالآيات الكونية التي تملأ هذا الكونَ؛ فالله الذي خلَق هذا الكون بآياته العظام وسيَّره بأبدَعِ نظام قادرٌ على بعثِ الناس، ومجازاتهم على أعمالهم؛ فللعاصين النارُ جزاءً وِفاقًا، وللمتقين الجنةُ جزاءً من ربك عطاءً حسابًا، وسورة (النبأ) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ لما ذكَرتْ من مشاهدِ يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
78
نوعها
مكية
ألفاظها
174
ترتيب نزولها
80
العد المدني الأول
40
العد المدني الأخير
40
العد البصري
41
العد الكوفي
40
العد الشامي
40

* سورة (النَّبأ):

سُمِّيت سورة (النَّبأ) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (النَّبأ) في فاتحتها؛ وهو: خبَرُ الساعة والبعث الذي يسأل الناسُ عن وقوعه.

* وتُسمَّى كذلك بسورة (عمَّ)، أو (عمَّ يتساءلون)، أو (التساؤل)؛ لافتتاحِها بها.

سورة (النَّبأ) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لرسولِ اللهِ: يا رسولَ اللهِ، أراكَ قد شِبْتَ! قال: «شيَّبتْني هُودٌ، والواقعةُ، والمُرسَلاتُ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}». أخرجه الحاكم (3314).

1. تساؤل المشركين عن النبأ (١-٥).

2. الآيات الكونية (٦-١٦).

3. أحداث يوم القيامة (١٧-٣٠).

4. جزاء المتقين (٣١-٤٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /4).

يقول البقاعي: «مقصودها: الدلالةُ على أن يوم القيامة الذي كانوا مُجمِعين على نفيه، وصاروا بعد بعثِ النبي صلى الله عليه وسلم في خلافٍ فيه مع المؤمنين: ثابتٌ ثباتًا لا يحتمل شكًّا ولا خلافًا بوجه؛ لأن خالقَ الخَلْقِ - مع أنه حكيمٌ قادر على ما يريد - دبَّرهم أحسنَ تدبير، وبنى لهم مسكنًا وأتقَنه، وجعلهم على وجهٍ يَبقَى به نوعُهم من أنفسهم، بحيث لا يحتاجون إلى أمرٍ خارج يرونه، فكان ذلك أشَدَّ لأُلفتهم، وأعظَم لأُنْسِ بعضهم ببعض، وجعَل سَقْفَهم وفراشهم كافلَينِ لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيدَه - وهو تامُّ القدرة، كامل السلطان - يَمرَحون، يَبغِي بعضهم على بعض، ويأكلون خيرَه ويعبدون غيرَه، فكيف إذا كان حاكمًا؟! فكيف إذا كان أحكَمَ الحاكمين؟!
هذا ما لا يجوز في عقلٍ، ولا يخطر ببالٍ أصلًا؛ فالعلم واقع به قطعًا.
وكلٌّ من أسمائها واضحٌ في ذلك؛ بتأمُّل آيته، ومبدأ ذكرِه وغايته». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /151).