ﰡ
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤)ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦)
اللغة:
(سُباتاً) راحة لأبدانكم وفي المختار: «السبات النوم وأصله الراحة ومنه قوله تعالى: وجعلنا نومكم سباتا وبابه نصر» وفي المصباح:
«والسبات بالضم كغراب: النوم الثقيل وأصله الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل وسبت بالبناء للمفعول غشي عليه وأيضا مات»
(الْمُعْصِراتِ) المعصر: قال الفراء: السحاب الذي يجلب المطر ولما يجتمع مثل الجارية المعصر قد كادت تحيض ولما تحض، وقال نحوه ابن قتيبة وقال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينى مائلا خمارها | قد أعصرت أو قد دنا إعصارها |
فكان مجني دون من كنت أتقي | ثلاث شخوص كاعبان ومعصر |
(أَلْفافاً) ملتفة وفي الأساس «لفّ الثوب وغيره ولفّ الشيء في ثوبه ولففه ولفّ رأسه في ثيابه والتفّ في ثيابه وتلفف والتفّ النبت وفي الأرض تلافيف من عشب، وجنات ألفافا: ملتفة وبه لفف من الأشجار قال الطرماح:
ولقد عرتني منك جدوى أنبتت | خضرا إلى لفف من الأشجار |
ولو كنت القتيل وكان حيّا | تشمّر لا ألفّ ولا سؤوم |
عراض القطا ملتفة ربلاتها | وما اللفّ أفخاذا بتاركة عقلا» |
الإعراب:
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) عن حرف جر وما اسم استفهام مجرور بعن وقد تقدم حذف ألف ما في الاستفهام إذا دخل عليها حرف جر في الأكثر وقرئ عمّا بإثبات الألف وقد تقدم أنه يجوز ضرورة أو في قليل من الكلام، وعليه قول حسان بن ثابت:
على ما قام يشتمني لئيم | كخنزير تمرغ في رماد |
عطف أيضا وبنينا فعل ماض وفاعل وفوقكم ظرف متعلق ببنينا وسبعا مفعول به أي سبع سموات وشدادا صفة (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) عطف أيضا وسراجا مفعول جعلنا ووهاجا صفة والجعل هنا بمعنى الخلق (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) عطف أيضا وأنزلنا فعل وفاعل ومن المعصرات متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به وثجاجا صفة (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) اللام لام التعليل ونخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهي متعلقة بأنزلنا أيضا وبه متعلقان بنخرج وحبا مفعول نخرج ونباتا عطف على حبا (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) عطف على حبا وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم وألفافا نعت لجنان أي بساتين ملتفة.
البلاغة:
في قوله «وجعلنا الليل لباسا» تشبيه بليغ، ووجه الشبه الستر لأن كلّا من اللباس والليل يستر المتلبس به أي يستركم عن العيون إذا أردتم النجاة بأنفسكم من عدو يلاحقكم أو بياتا له إذا أردتم إنزال الوقيعة به في منأى عن العيون أو يعينكم على إخفاء ما لا ترغبون في أن يطّلع عليه أحد، وقد رمق أبو الطيب هذه السماء العالية كعادته فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يد | تخبر أن المانوية تكذب |
وقال رد الأعداء تسري إليهم | وزارك فيه ذو الدلال المحجب |
وقال أبو الطيب أيضا متشبثا بأهداب هذه البلاغة العالية:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي | وأنثني وبياض الصبح يغري |
سرّان في خاطر الظلماء يكتمان | حتى يكاد لسان الصبح يغشينا |
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١)
حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
(سَراباً) السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأن ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال «هو أخدع من السراب» يعني أنها تصير شيئا كلا شيء لتفرّق أجزائها وانبثاث جواهرها كقوله تعالى: «فانت هباء منبثا»، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة.
(أَحْقاباً) جمع حقب بضم الحاء ويجمع أيضا على أحقب:
ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون وسيأتي مزيد من المراد به في باب الإعراب.
(بَرْداً) البرد هو مسّ الهواء القرّ أي لا يمسّهم منه ما يستلذ أو ينفس حرّ النهار عنهم وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرد هنا: النوم والعرب تسمّيه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد البرد وقال الشاعر:
فلو شئت حرّمت النساء سواكم | وإن شئت لم أطعم نقّاخا ولا بردا |
أماني من سعدى حسان كأنما | سقتك بها سعدى على ظمأ بردا |
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى | وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا |
(غَسَّاقاً) قرئ بالتخفيف والتشديد وقد تقدم ذكره وأنه ما يسيل من صديد أهل النار.
الإعراب:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) كلام مستأنف مسوق للرد على سؤال قد يرد بعد أن أثبت الله البعث بالأدلة المتقدمة وهو: ما وقت البعث فقال: إن يوم إلخ، وإنّ واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وميقاتا خبرها (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) يوم بدل من يوم الفصل وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلا من ميقاتا أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفخ فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على إسرافيل الذي ينفخ في الصور، فتأتون عطف على ينفخ وأفواجا حال من الواو (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) عطف على فتأتون وإنما عدل عن المضي إلى المضارع لتحقق الوقوع وقيل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال أي فتأتون والحال أن السماء قد فتحت والسماء نائب فاعل، فكانت عطف على فتحت واسم كان مستتر تقديره
١- ما روي عن الحسن قال: «إن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة بل قال: لابثين فيها أحقابا فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب إلى الأبد وليس للأحقاب مدة إلا الخلود». ٢- إن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية والحقب الواحد متناه والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، فالتوقيت لأنواع العذاب لا توقيت للّبث والمكوث. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) جملة لا يذوقون حال من الضمير في لابثين أي لابثين غير ذائقين فهي حال متداخلة أو صفة لأحقابا وقيل مستأنفة ولا نافية ويذوقون فعل مضارع مرفوع وفيها متعلقان بيذوقون وبردا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وشرابا عطف على بردا (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) إلا أداة حصر
فصدقتها وكذّبتها... والمرء ينفعه كذابه»
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) الواو عاطفة وكل شيء منصوب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء أحصيناه وهذه الجملة معترضة بين السبب ومسبّبه فإن قوله الآتي: فذوقوا مسبّب عن تكذيبهم وفائدة الاعتراض تقرير ما ادّعاه من قوله جزاء وفاقا، وجملة أحصيناه مفسّرة لا محل لها وأحصيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وكتابا يجوز أن يكون مصدرا من معنى أحصيناه أي إحصاء وأحصيناه بمعنى كتبنا لالتقاء الإحصاء والكتبة في معنى الضبط والتحصيل أو يكون مصدر لأحصينا ويجوز أن يكون حالا بمعنى مكتوبا (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) الفاء تعليلية لأنه- كما قلنا- مسبّب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات،
إن واسمها وجملة أنذرناكم خبرها وأنذرناكم
فعل وفاعل ومفعول به أول وعذابا مفعول به ثان وقريبا نعتَ وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)
يوم ظرف متعلق بعذابا وجملة ينظر المرء في محل جر بإضافة الظرف إليها وما مفعول به وجملة قدّمت يداه صلة ما ويقول الكافر عطف على ينظر المرء ولك أن تجعلها مستأنفة أو حالية ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وليتني ليت واسمها وجملة كنت خبرها وترابا خبر كنت.
التشبيه كثير في هذه السورة ونشير هنا إلى قوله «وسيّرت الجبال فكانت سرابا» وهو تشبيه بليغ حذفت منه الأداة وحذف وجه الشبه أيضا وهو أن المرئي خلاف الواقع فكما يرى السراب من بعيد للظامىء الملتاح كأنه ماء فيستبشر به ويخفّ إليه حتى إذا أدركه بعد طول الأين لم يجده شيئا، وكذلك ترى الجبال كأنها جبال وليست كذلك في نفس الأمر.
سورة النبأ
سورة (النَّبأ) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بإثباتِ وقوع يوم القيامة، ودلَّلتْ على صدقِ ذلك بالآيات الكونية التي تملأ هذا الكونَ؛ فالله الذي خلَق هذا الكون بآياته العظام وسيَّره بأبدَعِ نظام قادرٌ على بعثِ الناس، ومجازاتهم على أعمالهم؛ فللعاصين النارُ جزاءً وِفاقًا، وللمتقين الجنةُ جزاءً من ربك عطاءً حسابًا، وسورة (النبأ) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ لما ذكَرتْ من مشاهدِ يوم القيامة.
ترتيبها المصحفي
78نوعها
مكيةألفاظها
174ترتيب نزولها
80العد المدني الأول
40العد المدني الأخير
40العد البصري
41العد الكوفي
40العد الشامي
40* سورة (النَّبأ):
سُمِّيت سورة (النَّبأ) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (النَّبأ) في فاتحتها؛ وهو: خبَرُ الساعة والبعث الذي يسأل الناسُ عن وقوعه.
* وتُسمَّى كذلك بسورة (عمَّ)، أو (عمَّ يتساءلون)، أو (التساؤل)؛ لافتتاحِها بها.
سورة (النَّبأ) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لرسولِ اللهِ: يا رسولَ اللهِ، أراكَ قد شِبْتَ! قال: «شيَّبتْني هُودٌ، والواقعةُ، والمُرسَلاتُ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}». أخرجه الحاكم (3314).
1. تساؤل المشركين عن النبأ (١-٥).
2. الآيات الكونية (٦-١٦).
3. أحداث يوم القيامة (١٧-٣٠).
4. جزاء المتقين (٣١-٤٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /4).
يقول البقاعي: «مقصودها: الدلالةُ على أن يوم القيامة الذي كانوا مُجمِعين على نفيه، وصاروا بعد بعثِ النبي صلى الله عليه وسلم في خلافٍ فيه مع المؤمنين: ثابتٌ ثباتًا لا يحتمل شكًّا ولا خلافًا بوجه؛ لأن خالقَ الخَلْقِ - مع أنه حكيمٌ قادر على ما يريد - دبَّرهم أحسنَ تدبير، وبنى لهم مسكنًا وأتقَنه، وجعلهم على وجهٍ يَبقَى به نوعُهم من أنفسهم، بحيث لا يحتاجون إلى أمرٍ خارج يرونه، فكان ذلك أشَدَّ لأُلفتهم، وأعظَم لأُنْسِ بعضهم ببعض، وجعَل سَقْفَهم وفراشهم كافلَينِ لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيدَه - وهو تامُّ القدرة، كامل السلطان - يَمرَحون، يَبغِي بعضهم على بعض، ويأكلون خيرَه ويعبدون غيرَه، فكيف إذا كان حاكمًا؟! فكيف إذا كان أحكَمَ الحاكمين؟!
هذا ما لا يجوز في عقلٍ، ولا يخطر ببالٍ أصلًا؛ فالعلم واقع به قطعًا.
وكلٌّ من أسمائها واضحٌ في ذلك؛ بتأمُّل آيته، ومبدأ ذكرِه وغايته». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /151).