تفسير سورة القيامة

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

تفسير سورة سورة القيامة من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا ذكر أنهم لا يخافون الآخرة، أقسم بيوم القيامة لعظمته، وذكرهم ببعض أهوالها فقالِ: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * لاَ ﴾: صلة ﴿ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ ﴿ وَلاَ ﴾: صلة ﴿ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ ﴾: لنفسها في كل فعل، أو الإمارة، أو كل النفوس لوامة في القيامة، كما في الحديث، وجوابه: لتبعثن، الدال عليه: ﴿ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ ﴾: جنسه ﴿ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ للبعث ﴿ بَلَىٰ ﴾ نجمعها ﴿ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ سلامياته نجمع صغار عظامها فكيف بالكبار، والسلاميات: عظام صغار في مفاصل الأعضاء لم يحصها أهل التشريح لكثرتها فقالوا: العظام مائتان وثمانية وأربعون سوى السلاميات، فإنها لصغرها وكثرتها لا تحصى، أو نجمع أصابعه واحدا كالإبل، أو الحمار، أو الخنزير فلا يمكنه العمل به ﴿ بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ ﴾ جنسه ﴿ لِيَفْجُرَ ﴾: يدوم على الفجور ﴿ أَمَامَهُ ﴾: مستقبله، والفكرة في العبث تنغص لذاته فلا جرم ﴿ يَسْأَلُ ﴾: إنكارا ﴿ أَيَّانَ ﴾ متى ﴿ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ ﴾: تحير ﴿ ٱلْبَصَرُ ﴾ دهشة ﴿ وَخَسَفَ ﴾ أي: أظلم ﴿ ٱلْقَمَرُ ﴾: فلا يناقضه، على مذهب الحساب ﴿ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴾: على أن المراد لفهما كحصير، أو طلوعهما من المغرب أسودين مكورين ﴿ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ ﴾: أي: الفرار ﴿ كَلاَّ ﴾ ردع عن طلبه ﴿ لاَ وَزَرَ ﴾: لا ملجأ ﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ ﴾: للكل، فيجازيهم ﴿ يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ ﴾: أي: عمل ﴿ وَأَخَّرَ ﴾: أي: ترك ﴿ بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾: أي: شاهد فلا يحتاج إلى الإنباء، والهاء للمبالغة ﴿ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴾: جاء لك معذرة فلاَ تُقْبل، أو أرخى ستوره، والمعذار: الستر، ولما ذم على إيثار العاجلة على الآجلة بقوله " بل يريد... إلى آخره، أتي باعتراض يؤكد التوبيخ على حُبِّ العجلة، قدَّم العجلة فيما هو أهم وأصل الدين وقال: ﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ ﴾: يا محمد، أي: بالقرآن ﴿ لِسَانَكَ ﴾: قبل فراغ جبريل ﴿ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾: مسارعة إلى حفظه، ولعل عجلته وقعت في الآيات السابقة، فالمناسبة أظهر ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ﴾: في صدرك ﴿ وَقُرْآنَهُ ﴾: أي: قراءته بلسانك ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ﴾: على لسان جبريل وأصغيته ﴿ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾: قراءته ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾: فيما أشكل عليك، ثم ردع الكل عن عادة العجلة فقال: ﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ﴾: الدنيا ﴿ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ ﴾: فلا تعملون بها ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾: حسنة بهية ﴿ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾: عيانا، أشار بتقديم الظرف إلى أنهم بالنظر إليه يغفلون عما سواه، أو النظر إلى غيره، كلا نظر أو يقال: هذا ليس في كل حال. * تنبيه: أعلم أنّ المعتزلة الرؤية قائلين إنّ النظر غيرها، بل تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا للرؤية وهي تقتضي جهة ونحوها، ومنه:﴿ وَتَرَٰهُمْ يَنظُرُونَ ﴾[الأعراف: ١٩٨] الآية ونحوها، وأنه بمعنى الانتظار، أو أن " إل " مفرد الآلاء مع بعد الكل مردود بقول موسى عليه الصلاة والسلام: أرني أنظر إليك، فلو كان النظر التقليب لا قتضت الجهة والمكان وبأن " ما " بمعنى الانتظار لا يعدى بإلى نحو: هل ينظرون، على أن الانتظار امتها، والمقام مقام الإنعام، وإلى في الإمام مكتوب بالياء، ومفرده الآلاء بالألف، مع أن الأحاديث الصحيحة في إثبات الرؤية كثيرة، ومع ذلك قد أجمع الأمة قبل ظهور المخالفين على وقوعها، وعلى كون الآية محمولة على الظاهر المتبادر، ومثل هذا الإجماع يفيد اليقين، والله تعالى أعلم ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾: شديد العبوس ﴿ تَظُنُّ ﴾: تتوقع ﴿ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾: داهية تكسر الفقار ﴿ كَلاَّ ﴾: إلا ﴿ إِذَا بَلَغَتِ ﴾: النفس ﴿ ٱلتَّرَاقِيَ ﴾: أعالى الصدر ﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾: لشفائه من الرقية، أو [مَنْ] يرقَى بروحه: أملك الرحمة أم ملك العذاب؟ ﴿ وَظَنَّ ﴾: علم المحتضَرُ ﴿ أَنَّهُ ﴾: النازل به ﴿ ٱلْفِرَاقُ ﴾: للدنيا ﴿ وَٱلْتَفَّتِ ﴾ التوت ﴿ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ﴾: الأخرى للشدة ﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ ﴾: السوق ﴿ فَلاَ صَدَّقَ ﴾: بالكتب أو الرسالة ﴿ وَلاَ صَلَّىٰ * وَلَـٰكِن كَذَّبَ ﴾: الحق ﴿ وَتَوَلَّىٰ ﴾: عن الطاعة كأبي جهل ﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ﴾: يتبختر إعجاباً ﴿ أَوْلَىٰ لَكَ ﴾: أي: قَاربَكَ مَا تَكْرهُ، أو ويلٌ لك ﴿ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ ﴾ يا أبا جهل ﴿ فَأَوْلَىٰ * أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ بلا تكليف وجزاء ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ﴾: يصب في الرحم ﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ ﴾ منه الإنسان ﴿ فَسَوَّىٰ ﴾: أي: عدله ﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ﴾: الصنفين ﴿ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَلِكَ ﴾: الصانع ﴿ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾: يستحب بعده: سبحانك اللهم، بلى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصَّواب.
سورة القيامة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (القيامة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (القارعة)، وقد تحدَّثتْ عن القيامة، وما يقترن بها من أهوالٍ، وحالِ الإنسان في هذا اليوم العصيب، مقارنةً بما كان عليه في الدنيا من غفلةٍ واستبعاد لهذا اليوم، مع الدعوةِ للاستعداد لهذا اليوم.

ترتيبها المصحفي
75
نوعها
مكية
ألفاظها
165
ترتيب نزولها
31
العد المدني الأول
39
العد المدني الأخير
39
العد البصري
39
العد الكوفي
40
العد الشامي
39

* قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]:

عن موسى بن أبي عائشةَ، قال: حدَّثَنا سعيدُ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعالِجُ مِن التنزيلِ شِدَّةً، وكان يُحرِّكُ شَفَتَيهِ - فقال لي ابنُ عباسٍ: فأنا أُحرِّكُهما لك كما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحرِّكُهما، فقال سعيدٌ: أنا أُحرِّكُهما كما كان ابنُ عباسٍ يُحرِّكُهما، فحرَّكَ شَفَتَيهِ -؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 16-17]، قال: جَمْعُه في صدرِك، ثم تَقرَؤُه، {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 18]، قال: فاستمِعْ له وأنصِتْ، ثم إنَّ علينا أن تَقرأَه، قال: فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جِبْريلُ عليه السلام استمَعَ، فإذا انطلَقَ جِبْريلُ قرَأَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أقرأَه». أخرجه البخاري (٧٥٢٤).

* سورة (القيامة):

سُمِّيت سورة (القيامة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله بهذا اليومِ العظيم.

1. أهوال يوم القيامة (١-١٥).

2. طريق النجاة (١٦-١٩).

3. عَوْدٌ لمَشاهدِ القيامة (٢٠-٢٥).

4. ساعة الموت (٢٦-٤٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /487).

يقول ابن عاشور رحمه الله: «اشتملت على إثباتِ البعث، والتذكيرِ بيوم القيامة، وذِكْرِ أشراطه، وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناسُ في الدنيا، واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء، وتكريم أهل السعادة، والتذكير بالموت، وأنه أول مراحلِ الآخرة، والزَّجر عن إيثار منافعِ الحياة العاجلة على ما أُعِدَّ لأهل الخير من نعيم الآخرة». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /337).