تفسير سورة القيامة

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة القيامة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ

﴿ لا أقسم بيوم القيامة... ﴾ أي أقسم به. أقسم بالنفس اللوامة. " ولا " زائدة في الموضعين ؛ كما في قوله تعالى : " لئلا يعلم أهل الكتاب " ١، " فلا وربك لا يؤمنون " ٢، وقولهم : لا وأبيك. إذ لا فرق بين زيادتها أول الكلام أو وسطه. وقيل : هي نفي ورد لكلام مضى من المشركين ؛ حيث أنكروا البعث والجزاء. كأنه قيل " لا " ! أي ليس الأمر كما زعموا. ثم قيل : أقسم بيوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء. وأقسم بالنفوس اللوامة، المتقية التي تلوم أنفسها على ما فات، وتندم على الشر لم فعلته ! وعلى الخير لم لم تستكثر منه ! فهي على الدوام لأمة لأنفسها. وجواب القسم محذوف لدلالة ما بعده عليه ؛ أي لتبعثن على ما عملتم.
١ آية ٢٩ الحديد..
٢ آية ٦٥ النساء..
﴿ أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ﴾ بعد التفرق والبلى ! ؟ استفهام تقريع وتوبيخ. والمراد بالإنسان جنسه، أو الكافر المنكر للبعث. وخص العظام بالذكر لأنها قالب الخلق.
﴿ بلى ﴾ نجمعها ونؤلف بينها ونردها إلى أماكنها من الجسم كما كانت ؛ بعد تفرقها وصيرورتها رميها ورفاتا حيثما كانت. ﴿ قادرين ﴾ حال من فاعل الفعل المقدر بعد " بلى " أي نجمعها قادرين. ﴿ على أن نسوي بنانه ﴾ أي نجعلها مستوية الخلق. يقال : سوى الشيء، أي جعله سويا أي مستويا. والبنان : الأصابع أو الأنامل ؛ جمع بنانة. ويقال لكل مفصل منها : بنانة. أي قادرين على أن نجعل أصابعه أو أنامله بعد جمعها وتأليفها خلقا سويا كما كانت قبل الموت. وخصت بالذكر لأنها آخر ما يتم به الخلق ؛ فذكرها يدل على تمام خلق سائر الأعضاء. أو قادرين على أن نسوي ونضم سلامياته، مع صغرها ولطافتها ؛ كما كانت في الحياة الأولى فكيف بالعظام الكبار ! ؟
﴿ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ﴾ أي بل أيريد أن يمضي قدما في الفجور فيما بين يديه من الأوقات وما يستقبله من الزمان ويدوم عليه ! لا يثنيه عنه شيء ولا يتوب منه ؛ ومن ذلك إنكاره البعث وسؤاله عنه سؤال استهزاء بقوله :﴿ أيان يوم القيامة ﴾ أي متى يكون !
﴿ فإذا برق البصر ﴾ وقرئ بفتح الراء، وهما لغتان بمعنى واحد. أي تحير فزعا ودهشا من رؤية ما كان يكذبه. وأصله من برق الرجل – كفرح ونصر - : إذا نظر إلى البرق فدهش ولم يبصر. ؟ وقيل المفتوح من البريق ؛ أي لمع من شدة شخوصه.
﴿ وخسف القمر ﴾ ذهب ضوءه.
﴿ وجمع الشمس... ﴾ أي قرن بينهما في الطلوع من المغرب.
﴿ يقول الإنسان يومئذ. ﴾ أي يوم إذ تقع هذه الأمور، وهو يوم القيامة : أين الفار من الله ؟ أو من العذاب ؟
﴿ كلا ﴾ ردع عن طلب المفر وتمنيه. ﴿ لا وزر ﴾ لا ملجأ ولا منجى لكم. وأصله : الجبل المنيع ؛ من الوزر وهو الثقل، ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجإ من جبل أو حصن أو غيرهما.
﴿ ينبؤا الإنسان... ﴾ أي بما عمل وما ترك ؛ أو بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيء، وما أخر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعد موته.
﴿ على نفسه بصيرة ﴾ حجة بينة على نفسه، شاهدة بما كان منه من الأعمال السيئة. أو بل جوارحه على نفسه بصيرة، أي شاهدة.
﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ لو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه، ويدافع بها عنها – لم ينفعه ذلك ؛ وهو كقوله تعالى : " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " ١ جمع معذرة بمعنى العذر، وهو تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه.
١ آية ٥٢ غافر..
﴿ لا تحرك به لسانك... ﴾ الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والضمير للقرآن. وقد كان عند نزول الوحي وقبل الفراغ منه يحرك له لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه ؛ فأنزل الله تعالى الآية. فكان بعد ذلك إذا أتاه جبريل بالوحي أطرق، فإذا ذهب كما وعده الله تعالى.
﴿ إن علينا جمعه ﴾ في صدرك ؛ بحيث لا يذهب عنك شيء منه. ﴿ وقرءانه ﴾ أي إثبات قراءته في لسانك ؛ بحيث تقرؤه متى شئت. فالقرآن مصدر كالغفران بمعنى القراءة ؛ مضاف إلى المفعول بتقدير مضاف.
﴿ فإذا قرأناه ﴾ أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل المبلغ عنا﴿ فاتبع قرءانه ﴾ فاتبع بذهنك قراءته ؛ أي فاستمع وأنصت حتى يرسخ في قلبك، ثم اقرأ.
﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ أي بيان ما أشكل من معانيه وأحكامه.
﴿ كلا ﴾ إرشاد له صلى الله عليه وسلم لترك العجلة. وترغيب له في الأناة.
﴿ بل تحبون العاجلة.. ﴾ خطاب لمن تتأتى مخاطبته. كأنه قيل : بل أنتم أيها الناس لأنكم خلقتم من عجل، وجبلتم عيه، تعجلون في كل شيء ! ولذا تحبون العاجلة، وتذرون آخرة. أو إن الذي دعاكم إلى إنكار البعث والجزاء، إنما هو محبتكم الدنيا العاجلة، وإيثاركم لشهواتها على آجل الآخرة ونعيمها ! فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة !
﴿ وجوه يومئذ ناضرة... ﴾ حسنة مشرقة، جملة من النعيم والغبطة، وهي وجوه المؤمنين المخلصين ؛ من النضرة وهي الحسن. ناظرة إلى ربها يوم القيامة، تراه على ما يليق بذاته سبحانه ! وكما يريد أن تكون الرؤية له عز وجل، بلا كيفية ولا جهة ؛ ولا ثبوت مسافة.
﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ كالحة شديدة العبوس، وهي وجوه الكفار ؛ وذلك قبل الانتهاء بها إلى النار ؛ من البسر [ آية ٢٢ المدثر ص ٤٨٢ ]
﴿ تظن أن يفعل بها فاقرة ﴾ توقن أو تتوقع تلك الوجوه – والمراد أربابها – أن يفعل بها فعل هو في شدته وفظاعته داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر. يقال : فقرته الفاقرة، أي كسرت الداهية فقار ظهره. وأصل الفقر : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم، أو ما يقرب منه.
﴿ كلا ﴾ ردع عن إيثار العاجلة. كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك ! وتنبهوا للموت الذي تنقطع عنده العاجلة، وتنتقلون به إلى الآجلة. ﴿ إذا بلغت الترافي ﴾ بلغت الروح الترافي – أي أعالي الصدر – وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، وهي موضع الحشرجة ؛ جمع ترقوة. وهي كناية عن الإشفاء على الموت. وجواب " إذا " محذوف تقديره : وجد الإنسان ما عمله من خير أو شر. أو انكشفت له حقيقة الأمر.
﴿ وقيل من راق ﴾ قال من حضر صاحبها : هل من طيب يرقيه ويشفيه ويداويه ! وينجيه مما هو فيه برقيته ودوائه ! ؟ من الرقية، وأصلها : ما يستشفى به الملسوع والمريض من القول الذي يظن أنه نافع في ذلك. والمراد من يطبه بالقول أو بالفعل حتى ينجو. وهو استفهام استبعاد وإنكار ؛ أي قد بلغ حدا لا يستطيع معه أحد أن ينجيه من الموت. وفي رواية حفص عن عاصم سكتة لطيفة بين " من " و " راق ".
﴿ وظن أنه الفراق ﴾ أيقن المحتضر، أو توقع أنه الموت الذي يفارق به
الدنيا و نعيمها ؟ أو تفارق فيه الروح الجسد. وسمى اليقين ظنا لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة، ولا ينقطع رجاؤه منها لشدة حبه لها.
﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ التوت ساقه بساقه عند هلع الموت وقلقه. أو يبستا ولم تتحركا بالموت فكأنهما ملتفتان. أو هو كناية عن الشدة ؛ كما في قوله تعالى : " يوم يكشف عن ساق " ١. أي التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة. والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام ؛ ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق.
١ آية ٤٢ القلم..
﴿ إلى ربك يومئذ المساق ﴾ إلى حكم الله تعالى سوقه لا غيره. مصدر ميمي كالمقال.
﴿ فلا صدق ولا صلى ﴾ أي فلا صدق ذلك الإنسان الذي حسب أن لن نجمع عظامه بما يجب التصديق به، ولا صلى ما فرض عليه. والجملة معطوفة على قوله " يسأل أيان يوم القيامة " أي يسأل عنه، وما استعد له بما يجب عليه ؛ بل بما يوجب دماره وهلاكه.
﴿ ثم ذهب إلى أهله يتمطى ﴾ يتبخر افتخارا بذلك ؛ من المط بمعنى المد. وأصله يتمطط، قلبت فيه الطاء حرف علة ؛ كما قالوا : تظن من الظن، وأصله تظنن. أطلق على التبختر ؛ لأن المتبختر يمد خطاه.
﴿ أولى لك فأولى ﴾ كلمة دعاء وتهديد. أي قاربك ما يهلكك، أي نزل بك [ آية ٢٠ القتال ص ٣٢٩ ] وكرر للتأكيد. وذهب الجلال إلى أن المعنى : وليك ما تكره ! فهو أولى بك ! والجملة الأولى للدعاء عليه بقرب المكروه. والثانية للدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره.
﴿ أيحسب الإنسان... ﴾ أي أيظن أن يترك مهملا فلا يكلف ولا يجزى ! أو أن يترك في قبره فلا يبعث !. يقال : إبل سدى، أي مهملة لا راع. وأسدى : أهمله. والاستفهام إنكاري.
﴿ ألم يك نطفة ﴾ أي كيف يحسب ذلك ويجحد قدرتنا على بعثه ! ألم يك قطرة ماء تصب في الرحم وتراق فيه ! ؟
﴿ ثم كان علقة ﴾ قطعة دم متجمدا ! ؟ ﴿ فسوى ﴾ فسواه الله بقدرته تسوية، وعدله تعديلا بنفخ الروح فيه، بعد تصويره في أحسن صورة.
﴿ فجعل منه الزوجين ﴾ الصنفين﴿ الذكر والأنثى ﴾ بدل الزوجين. ﴿ أليس ذلك ﴾ الرب العظيم الشأن والقدرة، الذي أبدع هذا الإبداع
﴿ بقادر على أن يحي الموتى ﴾ ويبعثهم نشأة أخرى. وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال :( سبحانك اللهم وبلى ).
والله أعلم
سورة القيامة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (القيامة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (القارعة)، وقد تحدَّثتْ عن القيامة، وما يقترن بها من أهوالٍ، وحالِ الإنسان في هذا اليوم العصيب، مقارنةً بما كان عليه في الدنيا من غفلةٍ واستبعاد لهذا اليوم، مع الدعوةِ للاستعداد لهذا اليوم.

ترتيبها المصحفي
75
نوعها
مكية
ألفاظها
165
ترتيب نزولها
31
العد المدني الأول
39
العد المدني الأخير
39
العد البصري
39
العد الكوفي
40
العد الشامي
39

* قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]:

عن موسى بن أبي عائشةَ، قال: حدَّثَنا سعيدُ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعالِجُ مِن التنزيلِ شِدَّةً، وكان يُحرِّكُ شَفَتَيهِ - فقال لي ابنُ عباسٍ: فأنا أُحرِّكُهما لك كما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحرِّكُهما، فقال سعيدٌ: أنا أُحرِّكُهما كما كان ابنُ عباسٍ يُحرِّكُهما، فحرَّكَ شَفَتَيهِ -؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 16-17]، قال: جَمْعُه في صدرِك، ثم تَقرَؤُه، {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 18]، قال: فاستمِعْ له وأنصِتْ، ثم إنَّ علينا أن تَقرأَه، قال: فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جِبْريلُ عليه السلام استمَعَ، فإذا انطلَقَ جِبْريلُ قرَأَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أقرأَه». أخرجه البخاري (٧٥٢٤).

* سورة (القيامة):

سُمِّيت سورة (القيامة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله بهذا اليومِ العظيم.

1. أهوال يوم القيامة (١-١٥).

2. طريق النجاة (١٦-١٩).

3. عَوْدٌ لمَشاهدِ القيامة (٢٠-٢٥).

4. ساعة الموت (٢٦-٤٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /487).

يقول ابن عاشور رحمه الله: «اشتملت على إثباتِ البعث، والتذكيرِ بيوم القيامة، وذِكْرِ أشراطه، وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناسُ في الدنيا، واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء، وتكريم أهل السعادة، والتذكير بالموت، وأنه أول مراحلِ الآخرة، والزَّجر عن إيثار منافعِ الحياة العاجلة على ما أُعِدَّ لأهل الخير من نعيم الآخرة». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /337).