تفسير سورة القيامة

مراح لبيد

تفسير سورة سورة القيامة من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد.
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة القيامة
مكية، تسع وثلاثون آية، مائة وسبع وتسعون كلمة، ستمائة واثنان وخمسون حرفا
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا والآخرة، فإذا اجتهدت في الطاعة تلوم نفسها على عدم الزيادة، وإذا قصرت تلوم نفسها على التقصير والمعنى: لا أقسم عليك بذلك اليوم ولا بتلك النفس، ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وذلك قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي المكذب بالبعث، أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) أي أن الحديث لن
نقدر على أن نجمع عظامه بعد تفريقها. وقرأ قتادة «أن لن تجمع عظامه» على البناء للمفعول.
روي أن عدي بن أبي ربيعة- ختن الأخنس بن شريق- قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد، ولم أومن بك، أو يجمع الله العظام بعد صيرورتها ترابا، فنزلت هذه الآية.
وقال ابن عباس: المراد بالإنسان هاهنا أبو جهل فإنه أنكر البعث بعد الموت. قال تعالى في جوابه: بَلى فهذه الكلمة أثبتت ما بعد النفي- وهو الجمع- أي بلى نجمعها والوقف هنا تام.
وقال أبو عمرو: كاف قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) أي كنا قادرين أن نخلق أطراف أصابعه في الابتداء، فوجب أن نبقى قادرين على الإعادة في الانتهاء. وقرأ ابن أبي عبلة «قادرون» بالرفع، أي ونحن قادرون. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) أي بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة، وهو أمامه فمن كذب حقا كان فاجرا، يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) أي يسأل الإنسان سؤال متعنت ومستبعد متى يوم القيامة، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧).
قرأ نافع بفتح الراء أي شخص البصر عند معاينة أسباب الموت والملائكة. والباقون بالكسر أي تحير البصر فزعا فلم يطرف. وقرأ أبو السمال «بلق» بمعنى انفتح، وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) أي ذهب ضوءه. وقرئ و «خسف القمر» على البناء للمفعول، أي ذهب بنفسه،
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) بأن يطلعهما الله تعالى من المغرب، يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة يَوْمَئِذٍ أي إذا عاين هذه الأحوال: أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) أي أين الفرار من النار، وقرئ بكسر الفاء، أي أين موضع الفرار؟
كَلَّا أي حقا أو لا تتمن الفرار، لا وَزَرَ (١١) أي لا ملجأ، أي فلا جبل يواريه من النار إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
(١٢)، أي موضع قرارهم يوم إذ كانت هذه الأمور مفوضة إلى مشيئته تعالى، فإنه تعالى يدخل من يشاء الجنة، ومن يشاء النار، يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
(١٣) أي يخبر كل امرئ عند وزن الأعمال بما عمل وبما ترك من عمل خيرا كان، أو شرا بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
(١٤)، أي بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأن جوارحه تنطق بذلك، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
(١٥) أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه شاهد على نفسه لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بالقرآن لِسانَكَ
قبل فراغ جبريل من قراءته عليك لِتَعْجَلَ بِهِ
(١٦)، أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك وَقُرْآنَهُ
(١٧) أي إثبات قراءته في لسانك، فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته، عليك بلسان جبريل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(١٨) أي فاقرأ أنت بعد فراغنا من قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراء جبريل، فإذا سكت جبريل فاشرع أنت في القراءة، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) أي بيان ما أشكل عليك من معاليه وأحكامه على سبيل التفضل، كَلَّا أي لا تعجل يا أشرف الخلق وكن على أناة بَلْ أنتم يا بني آدم، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ولذلك تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) أي الدنيا،
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة، أي إنهم يحبون العمل للدنيا ويتركون العمل لثواب الآخرة، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) ف «وجوه» مبتدأ و «ناضرة» نعت له، ويومئذ منصوب ب «ناضرة» و «ناظرة» خبره، و «إلى ربها» متعلق بالخبر والمعنى: أن الوجوه الحسنة يوم القيامة وهي وجوه المؤمنين ناظرة إلى الله تعالى لا يحجبون عنه، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) أي ووجوه شديدة العبوس يوم القيامة وهي وجوه الكفرة، توقن أن يفعل بها أنواع العذاب في النار، كَلَّا أي تنبهوا لما أمامكم من الموت الذي ينقطع عنده المحبة بينكم وبين الدنيا، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) أي إذا بلغت الروح أعالي الصدر، وهي العظام المكتنفة بثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال: من حول المشرف على الموت على سبيل الطلب، أو على سبيل الإنكار من ينجيه مما هو فيه، وهل من طبيب فيداويه أو قال ملك الموت للملائكة: أيكم يرقى بروحه إلى السماء؟ وأيقن ذلك المحتضر أن ما نزل به فراق الدنيا واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا ويساق في ذلك اليوم إلى حكم الله تعالى إذ إليه مرجع الخلائق،
فَلا صَدَّقَ وهو معطوف على قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.
584
قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآيات في أبي جهل، أي فهو ما صدق بالدين، وَلا صَلَّى (٣١) أي ما صلى أبو جهل صلاة شرعية، وَلكِنْ كَذَّبَ ما يجب تصديقه من الرسول والقرآن، وَتَوَلَّى (٣٢) أي أعرض عن الطاعة، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أي يتمدد ويختال في مشيته، لأن المتبختر يمد خطاه، فاستقبله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذه، فهزه هزة أو هزتين وقال له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤)، أي ويل لك يا أبا جهل وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)، أي وعيدا لك يا أبا جهل، احذر يا أبا جهل فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه.
وقال القاضي: المعنى: بعدا لك، بعدا لك، أي بعدا في أمر دنياك، وبعدا في أمر أخراك.
قال قتادة ومقاتل: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل بالبطحاء وقال له: «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» «١». فقال أبو جهل بأيّ شيء تهددني يا محمد؟ فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني والله لأعز أهل هذا الوادي، وأعز من مشى بين جبليها. ثم انسل ذاهبا.
فأنزل الله تعالى مثل ذلك: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا، ولا يحاسب بعمله في الآخرة، أَلَمْ يَكُ أي الإنسان نُطْفَةً أي ماء قليلا في صلب الرجل، وترائب المرأة مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) أي يصب في الرحم، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي ثم صار المني دما عبيطا بقدرة الله تعالى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً، أي فنفخ الله في ذلك الإنسان الروح فكمل أعضاءه.
وهذا قول ابن عباس ومقاتل، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ أي فجعل الله من الإنسان الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩)، يجتمعان تارة في الرحم، وينفرد كل منهما عن الآخر تارة، وكان لأبي جهل ابن اسمه عكرمة وبنت اسمها جويرية. أَلَيْسَ ذلِكَ الذي أنشأ هذه الأشياء بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠) للبعث، فالإعادة أهون من البدء في قياس العقل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «سبحانك اللهم بلى» «٢». رواه أبو داود والحاكم.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: ١] إماما كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إلى آخرها فليقل:
سبحانك اللهم بلى. إماما كان أو غيره.
(١) رواه الطبري في التفسير (٢٥: ٨٠).
(٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى (٧: ٢٣٥)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢١٦٥٣).
585
سورة القيامة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (القيامة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (القارعة)، وقد تحدَّثتْ عن القيامة، وما يقترن بها من أهوالٍ، وحالِ الإنسان في هذا اليوم العصيب، مقارنةً بما كان عليه في الدنيا من غفلةٍ واستبعاد لهذا اليوم، مع الدعوةِ للاستعداد لهذا اليوم.

ترتيبها المصحفي
75
نوعها
مكية
ألفاظها
165
ترتيب نزولها
31
العد المدني الأول
39
العد المدني الأخير
39
العد البصري
39
العد الكوفي
40
العد الشامي
39

* قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]:

عن موسى بن أبي عائشةَ، قال: حدَّثَنا سعيدُ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعالِجُ مِن التنزيلِ شِدَّةً، وكان يُحرِّكُ شَفَتَيهِ - فقال لي ابنُ عباسٍ: فأنا أُحرِّكُهما لك كما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحرِّكُهما، فقال سعيدٌ: أنا أُحرِّكُهما كما كان ابنُ عباسٍ يُحرِّكُهما، فحرَّكَ شَفَتَيهِ -؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 16-17]، قال: جَمْعُه في صدرِك، ثم تَقرَؤُه، {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 18]، قال: فاستمِعْ له وأنصِتْ، ثم إنَّ علينا أن تَقرأَه، قال: فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جِبْريلُ عليه السلام استمَعَ، فإذا انطلَقَ جِبْريلُ قرَأَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أقرأَه». أخرجه البخاري (٧٥٢٤).

* سورة (القيامة):

سُمِّيت سورة (القيامة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله بهذا اليومِ العظيم.

1. أهوال يوم القيامة (١-١٥).

2. طريق النجاة (١٦-١٩).

3. عَوْدٌ لمَشاهدِ القيامة (٢٠-٢٥).

4. ساعة الموت (٢٦-٤٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /487).

يقول ابن عاشور رحمه الله: «اشتملت على إثباتِ البعث، والتذكيرِ بيوم القيامة، وذِكْرِ أشراطه، وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناسُ في الدنيا، واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء، وتكريم أهل السعادة، والتذكير بالموت، وأنه أول مراحلِ الآخرة، والزَّجر عن إيثار منافعِ الحياة العاجلة على ما أُعِدَّ لأهل الخير من نعيم الآخرة». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /337).