تفسير سورة القيامة

مختصر تفسير ابن كثير

تفسير سورة سورة القيامة من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير.
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
- ٢ - وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
- ٣ - أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ
- ٤ - بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ
- ٥ - بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
- ٦ - يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
- ٧ - فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ
- ٨ - وَخَسَفَ الْقَمَرُ
- ٩ - وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
- ١٠ - يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ
- ١١ - كَلاَّ لاَ وَزَرَ
- ١٢ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
- ١٣ - يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
- ١٤ - بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
- ١٥ - وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ
قد تقدم أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا جَازَ الإيتان بلا قبل القسم لتأكيد النفي، والمقسم عليه ههنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة مِنْ عَدَمِ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامة﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ أَقْسَمَ بهما جميعاً، والصحيح أنه أقسم بهما معاً وهو المروي عن ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فمعروف، وأما النفس اللوامة فقال الحسن البصري: إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللَّهِ مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي، مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي، مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قدماً قدماً ما يعاتب نفسه، وعن سِمَاكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ عَنْ قَوْلِهِ ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ قَالَ: يَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ والشر: لو فعلت كذا وكذا، وعن سعيد بن جبير قال: تلوم على الخير والشر، وقال مُجَاهِدٍ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَلُومُ عَلَيْهِ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّوَّامَةُ الْمَذْمُومَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿اللَّوَّامَةِ﴾ الْفَاجِرَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ متقاربة المعنى، والأشبه بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ أَنَّهَا الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَتَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أن لن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ﴾؟ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَيُظَنُّ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى إِعَادَةِ عِظَامِهِ وَجَمْعِهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ؟ ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ قال ابن عباس:
574
أَنْ نَجْعَلَهُ خُفًّا أَوْ حَافِرًا (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، قال ابن جرير: أي في الدنيا
لو شاء لجعل ذلك)، والظاهر من الآية أن قوله تعالى: ﴿قَادِرِينَ﴾ حال من قوله تعالى ﴿نَّجْمَعَ﴾ أَيْ أَيُظَنُّ الْإِنْسَانُ أَنَا لَا نَجْمَعُ عِظَامَهُ؟ بَلَى سَنَجْمَعُهَا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ، أَيْ قُدْرَتُنَا صَالِحَةٌ لِجَمْعِهَا، وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَاهُ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، فَنَجْعَلُ بَنَانَهُ وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ مُسْتَوِيَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ، وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ قال ابن عباس: يعني يمضي قدماً، وعنه: يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْكُفْرُ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾: لِيَمْضِيَ أَمَامَهُ راكباً رأسه، وقال الحسن: لا يلفى ابْنُ آدَمَ إِلَّا تَنْزِعُ نَفْسَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُدُمًا قُدُمًا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تعالى، وروي عن غير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ الَّذِي يَعْجَلُ الذُّنُوبَ ويسوّف التوبة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَافِرُ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمُرَادِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾؟ أَيْ يَقُولُ مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ سُؤَالُ اسْتِبْعَادٍ لِوُقُوعِهِ وَتَكْذِيبٌ لِوُجُودِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً ولا تستقدمون﴾، وقال تعالى ههنا: ﴿فَإِذَا بَرِقَ البصر﴾ بكسر الراء أي حار كقوله تعالى: ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْبَهِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَخْشَعُ وَتَحَارُ وَتَذِلُّ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ، وَمَنْ عِظَمِ مَا تُشَاهِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَخَسَفَ القمر﴾ أي ذهب ضوؤه، ﴿وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ قال مجاهد: كوّرا، كقوله ﴿إِذَا الشمس كوّرت﴾، وقوله تعالى: ﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ أَيْ إِذَا عَايَنَ ابْنُ آدَمَ هَذِهِ الْأَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حينئذٍ يُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ وَيَقُولُ: ﴿أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾؟ أَيْ هَلْ مِنْ مَلْجَأٍ أَوْ مَوْئِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: أي لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، وَكَذَا قال ههنا: ﴿لاَ وَزَرَ﴾ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَعْتَصِمُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ أَيْ يُخْبَرُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً﴾، وهكذا قال ههنا: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ أَيْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ عَالِمٌ بِمَا فَعَلَهُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَأَنْكَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ يقول: سمعه وبصره ويديه ورجليه وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِذَا شِئْتَ وَاللَّهِ رَأَيْتَهُ بَصِيرًا بِعُيُوبِ النَّاسِ وَذُنُوبِهِمْ، غَافِلًا عَنْ ذُنُوبِهِ وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبًا: يَا ابْنَ آدَمَ تُبْصِرُ الْقَذَاةَ فِي
عَيْنِ أَخِيكَ، وَتَتْرُكُ الجذع فِي عَيْنِكَ لَا تُبْصِرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ وَلَوْ جَادَلَ عَنْهَا فَهُوَ بَصِيرٌ عَلَيْهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ وَلَوِ اعْتَذَرَ يومئذٍ بِبَاطِلٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَقَالَ السدي: ﴿وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ﴾ حجته، واختاره ابن جرير، وقال الضحّاك: ولو ألقى سُتُورَهُ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمَّوْنَ السِّتْرَ الْمِعْذَارَ، وَالصَّحِيحُ قول مجاهد وأصحابه، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، وكقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ
575
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ هِيَ الِاعْتِذَارُ ألم تسمع أنه قال: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين معذرتهم﴾؟
576
- ١٦ - لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
- ١٧ - إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
- ١٨ - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
- ١٩ - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
- ٢٠ - كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ
- ٢١ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ
- ٢٢ - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
- ٢٣ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
- ٢٤ - وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
- ٢٥ - تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
هَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى أَخْذِهِ، وَيُسَابِقُ الْمَلَكَ فِي قِرَاءَتِهِ، فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن يبينه له وَيُوَضِّحَهُ، فَالْحَالَةُ الْأُولَى جَمْعُهُ فِي صَدْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ تِلَاوَتُهُ، وَالثَّالِثَةُ تَفْسِيرُهُ وَإِيضَاحُ مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ أَيْ بالقرآن كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ الآية، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ أَيْ فِي صَدْرِكَ، ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ أَيْ أَنْ تَقْرَأَهُ، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أَيْ إِذَا تلاه عليك الملك عن الله تعالى ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ أَيْ فَاسْتَمَعْ لَهُ ثُمَّ اقْرَأْهُ كَمَا أَقْرَأَكَ، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ أَيْ بَعْدَ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ نُبَيِّنُهُ لَكَ وَنُوَضِّحُهُ وَنُلْهِمُكَ معناه على ما أردنا وشرعنا. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شدة فكان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تقرأه ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ﴾ أي فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ كما أقرأه (أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه). وفي رواية للبخاري: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قرأه كما وعده الله عزَّ وجلَّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَلْقَى مِنْهُ شِدَّةٌ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ عُرِفَ
فِي تَحْرِيكِهِ شَفَتَيْهِ، يَتَلَقَّى أَوَّلَهُ وَيُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَى أَوَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم). وقال ابن عباس: كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال الله تَعَالَى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنا عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ أَنْ نَجْمَعَهُ لَكَ ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ أَنْ نُقْرِئَكَ فَلَا تنسى، وقال ابن عباس ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ تَبْيِينَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وكذا قال قتادة.
وقوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ أَيْ إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة، إِنَّهُمْ إِنَّمَا هِمَّتُهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَهُمْ لَاهُونَ مُتَشَاغِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ مِنَ النَّضَارَةِ أَيْ حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ مَسْرُورَةٌ، ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أي تراه عياناً، كما رواه البخاري فِي صَحِيحِهِ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا» وَقَدْ ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا ولا منعها، لحديث أبي هريرة وهما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ دونهما سحاب؟»
576
قالوا: لا، قال: «إنكم ترون ربكم كذلك» (أخرجه الشيخان). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا قبل غروبها فافعلوا» (أخرجاه في الصحيحين)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ ينظروا إلى الله عزَّ وجلَّ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عدن» (رواه البخاري ومسلم). وفي مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ - قَالَ - يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ وَهِيَ الزِّيَادَةُ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ (رواه مسلم)، فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ فِي الْعَرَصَاتِ وَفِي رَوْضَاتِ الجنات، وروى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ إِلَى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين» (أخرجه أحمد والترمذي)، قال الْحَسَنِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ قَالَ: حَسَنَةٌ، ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْضُرَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ، وقوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ هَذِهِ وُجُوهُ الْفُجَّارِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَاسِرَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: كَالِحَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغَيَّرَ أَلْوَانُهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ﴿بَاسِرَةٌ﴾ أَيْ عَابِسَةٌ ﴿تَظُنُّ﴾ أَيْ تَسْتَيْقِنُ ﴿أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: دَاهِيَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَرٌّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا هَالِكَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَظُنُّ أنها ستدخل النار، وهذا المقام كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالية﴾ وأشباه ذلك من الآيات الكريمة.
577
- ٢٦ - كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ
- ٢٧ - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
- ٢٨ - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ
- ٢٩ - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ
- ٣٠ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ
- ٣١ - فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى
- ٣٢ - وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
- ٣٣ - ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى
- ٣٤ - أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى
- ٣٥ - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى
- ٣٦ - أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
- ٣٧ - أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَنِيٍّ يُمْنَى
- ٣٨ - ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى
- ٣٩ - فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
- ٤٠ - أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى
577
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، ثَبَّتَنَا اللَّهُ هُنَالِكَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ إِنْ جَعْلَنَا (كَلَّا) رَادِعَةً فَمَعْنَاهَا: لَسْتَ يَا ابْنَ آدم هناك تكذب بِمَا أُخْبِرْتَ بِهِ، بَلْ صَارَ ذَلِكَ عِنْدَكَ عياناً، وإن جعلناها بمعنى (حقاً) فظاهرأي حَقًّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ أَيِ انْتُزِعَتْ رُوحُكَ مِنْ جَسَدِكَ وَبَلَغْتَ تَرَاقِيَكَ، وَالتَّرَاقِي جَمْعُ (تَرْقُوَةٍ) وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ كقوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾، ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾؟ قال ابن عباس: أي من راق يرقي؟ وقال أبو قلابة؟ أَيْ مَنْ طَبِيبٌ شَافٍ (وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والضحّاك وابن زيد). وعن ابن عباس: ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ قِيلَ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ ملائكة العذاب (ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عباس)؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ قال: التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه ﴿والتفت الساق بالساق﴾ يقول: آخر يوم من أيام الدُّنْيَا وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، فَتَلْتَقِي الشدة بالشدة إلاّ من رحمة اللَّهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَاءٌ بِبَلَاءٍ، وقال الحسن البصري: هما ساقاك إذا التفتا، وكذا قال السدي عَنِ الْحَسَنِ: هُوَ لَفُّهُمَا فِي الْكَفَنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ تُرْفَعُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: رُدُّوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أَخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخرى، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطويل، وقوله جلَّ وعلا: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كذَّب وَتَوَلَّى﴾ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُكَذِّبًا لِلْحَقِّ بِقَلْبِهِ، مُتَوَلِّيًا عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ بَاطِنًا وَلَا ظاهراً، ولهذا قال تَعَالَى: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى﴾ أي جذلان أشراً بطراً، لَا هِمَّةَ لَهُ وَلَا عَمَلَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وإذا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فكهين﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ أي يرجع، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ أي يختال، وقال قتادة: يَتَبَخْتَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ من الله تعالى للكافر، المتبختر في مشيه، أَيْ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَمْشِيَ هَكَذَا وَقَدْ كفرت بخالقك وبارئك، وذلك على سبيل التكهم والتهديد، كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾، وكقوله تعالى: ﴿كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مجرمون﴾ وكقوله جلَّ جلاله: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ إلى غير ذلك، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾؟ قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جهل، ثم أنزله الله عزَّ وجلَّ (أخرجه النسائي). وقال قتادة في قَوْلُهُ: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ أَبَا جَهْلٍ أَخَذَ نبيُ الله ﷺ بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى»، فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَاللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ من مشى بين جبليها (أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة).
578
وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾؟ قَالَ السُّدِّيُّ: يعني لا يبعث، وقال مجاهد: يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الآية تعم الحالتين، أَيْ لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُتْرَكُ فِي قبره سدى لايبعث، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي الدُّنْيَا مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إثبات المعاد، ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾ أَيْ أَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَةً ضَعِيفَةً مِنْ مَاءٍ مهين ﴿يمنى﴾ أي يُرَاقُ مِنَ الْأَصْلَابِ فِي الْأَرْحَامِ ﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ أَيْ فَصَارَ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ شُكِّلَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ خَلْقًا آخَرَ سَوِيًّا، سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ ذَكَرًا أَوْ أُنثى بإذن الله وتقديره: ولهذا قال تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾، ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِي الْمَوْتَى﴾؟ أَيْ أَمَا هَذَا الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْخَلْقَ السَّوِيَّ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الضَّعِيفَةِ، بِقَادِرٍ عَلَى أَن يعيده كما بدأه؟ كقوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه﴾، روى أبو داوود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ؛ وَمَنْ قَرَأَ ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة﴾ فانتهى إلى قَوْلُهُ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾ فَبَلَغَ ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾؟ فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ" (أخرجه أبو داود وأحمد، ورواه الترمذي بنحوه). وعن قتادة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: «سُبْحَانَكَ وبلى» (أخرجه ابن جرير). وكان ابن عباس إذا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾؟ قال: سبحانك فبلى (أخرجه ابن أبي حاتم).
579
- ٧٦ - سورة الإنسان.
580

[مقدمة]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: ﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةَ وَ ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ (أخرجه مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ)؟
580
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
580
سورة القيامة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (القيامة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (القارعة)، وقد تحدَّثتْ عن القيامة، وما يقترن بها من أهوالٍ، وحالِ الإنسان في هذا اليوم العصيب، مقارنةً بما كان عليه في الدنيا من غفلةٍ واستبعاد لهذا اليوم، مع الدعوةِ للاستعداد لهذا اليوم.

ترتيبها المصحفي
75
نوعها
مكية
ألفاظها
165
ترتيب نزولها
31
العد المدني الأول
39
العد المدني الأخير
39
العد البصري
39
العد الكوفي
40
العد الشامي
39

* قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]:

عن موسى بن أبي عائشةَ، قال: حدَّثَنا سعيدُ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ} [القيامة: 16]، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعالِجُ مِن التنزيلِ شِدَّةً، وكان يُحرِّكُ شَفَتَيهِ - فقال لي ابنُ عباسٍ: فأنا أُحرِّكُهما لك كما كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحرِّكُهما، فقال سعيدٌ: أنا أُحرِّكُهما كما كان ابنُ عباسٍ يُحرِّكُهما، فحرَّكَ شَفَتَيهِ -؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 16-17]، قال: جَمْعُه في صدرِك، ثم تَقرَؤُه، {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ} [القيامة: 18]، قال: فاستمِعْ له وأنصِتْ، ثم إنَّ علينا أن تَقرأَه، قال: فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جِبْريلُ عليه السلام استمَعَ، فإذا انطلَقَ جِبْريلُ قرَأَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أقرأَه». أخرجه البخاري (٧٥٢٤).

* سورة (القيامة):

سُمِّيت سورة (القيامة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله بهذا اليومِ العظيم.

1. أهوال يوم القيامة (١-١٥).

2. طريق النجاة (١٦-١٩).

3. عَوْدٌ لمَشاهدِ القيامة (٢٠-٢٥).

4. ساعة الموت (٢٦-٤٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /487).

يقول ابن عاشور رحمه الله: «اشتملت على إثباتِ البعث، والتذكيرِ بيوم القيامة، وذِكْرِ أشراطه، وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناسُ في الدنيا، واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء، وتكريم أهل السعادة، والتذكير بالموت، وأنه أول مراحلِ الآخرة، والزَّجر عن إيثار منافعِ الحياة العاجلة على ما أُعِدَّ لأهل الخير من نعيم الآخرة». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /337).