تفسير سورة الإنشقاق

التحرير والتنوير

تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير.
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت في زمن الصحابة ﴿ سورة إذا السماء انشقت ﴾. ففي الموطأ عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. فضمير ﴿ فيها ﴾ عائد إلى ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ بتأويل السورة، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في الإتقان.
سماها المفسرون وكتاب المصاحف ﴿ سورة الانشقاق ﴾ باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة ﴿ سورة التطفيف ﴾ و ﴿ سورة انشقت ﴾ اختصارا.
وذكرها الجعبري في نظمه في تعداد المكي والمدني بلفظ ﴿ كدح ﴾ فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره.
ولم يذكرها في الإتقان مع السور ذوات الأكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.
وعد آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين.
أغراضها
ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء.

[سُورَة الانشقاق (٨٤) : الْآيَات ١ إِلَى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦)
قُدِّمَ الظَّرْفُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ كادِحٌ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ وَأَوَّلُ الْكَلَامِ فِي الِاعْتِبَارِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ إِلَخْ.
وَلَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ إِذَا بِجُزْءٍ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّكَ كادِحٌ وَكَانَتْ إِذَا ظَرْفًا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ صَارَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ جَوَابًا لِشَرْطِ إِذَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِذَا ظَرْفٌ خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِهِ، أَيْ خَافِضٌ لِجُمْلَةِ شَرْطِهِ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهَا مَنْصُوبًا بِجَوَابِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَكِلَاهُمَا عَامِلٌ وَمَعْمُولٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ.
وإِذَا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ إِذَا مُؤَوَّلٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَصِيَغَ بِالْمُضِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ أَصْلَ إِذَا الْقَطْعُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ.
وَانْشَقَّتْ مُطَاوِعُ شَقَّهَا، أَيْ حِينَ يَشُقُّ السَّمَاءَ شَاقٌّ فَتَنْشَقُّ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ شَقَّهَا فَانْشَقَّتْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَالِانْشِقَاقُ هَذَا هُوَ الِانْفِطَارُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] وَهُوَ انْشِقَاقٌ يَلُوحُ لِلنَّاسِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنْ جَرَّاءِ اخْتِلَالِ تَرْكِيبِ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ أَوْ مِنْ ظُهُورِ أَجْرَامٍ كَوْكَبِيَّةٍ تَخْرُجُ عَنْ دَوَائِرِهَا الْمُعْتَادَةِ فِي الْجَوِّ الْأَعْلَى فَتَنْشَقُّ الْقُبَّةُ الْهَوَائِيَّةُ فَهُوَ انْشِقَاقٌ يَقَعُ عِنْدَ اخْتِلَالِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ.
وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ دُونَ أَنْ يُقَالَ:
إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ الشَّرْطِيُّ، أَيْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، زِيَادَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِذَا فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنْ قَصْدِ الْجَزْمِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِنَّ).
وَأَذِنَتْ، أَيِ اسْتَمَعَتْ، وَفِعْلُ أَذِنَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ
218
الْأُذُنِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ آلَةُ السَّمْعِ فِي الْإِنْسَانِ يُقَالُ أُذُنٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ: اسْتَمِعْ لَهُ، أَيْ أَصْغَى إِلَيْهِ أُذُنَهُ.
وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي التَّأَثُّرِ لِأَمْرِ اللَّهِ التَّكْوِينِيِّ بِأَنْ تَنْشَقَّ. وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِعَارَةٍ
تَبَعِيَّةٍ (١) وَلَا تَمْثِيلِيَّةٍ (٢).
وَالتَّعْبِيرُ بِ «رَبهَا» دون غير ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَطُرُقِ تَعْرِيفِهِ، لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ الرَّبِّ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَجُمْلَةُ: وَحُقَّتْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المعطوفة والمعطوف عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: وَهِيَ مَحْقُوقَةٌ بِأَنْ تَأْذَنَ لِرَبِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ سُلْطَانِ قُدْرَتِهِ وَإِنْ عَظُمَ سُمْكُهَا وَاشْتَدَّ خَلْقُهَا وَطَالَ زَمَانُ رَتْقِهَا فَمَا ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهَا، فَهُوَ الَّذِي إِذَا شَاءَ أَزَالَهَا.
فَمُتَعَلِّقُ حُقَّتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها، أَيْ وَحُقَّتْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادِ وَالتَّأَثُّرِ يُقَالُ: حُقَّ فُلَانٌ بِكَذَا، أَيْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلَمَّا كَانَ فَاعِلُ تَوْجِيهِ الْحَقِّ غَيْرَ وَاضِحٍ تَعْيِينُهُ غَالِبا، كَانَ فَهَل حُقَّ بِكَذَا، مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمَرْفُوعُهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَيُقَالُ: حَقِيقٌ عَلَيْهِ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: ١٠٥] وَهُوَ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، قَالَ الْأَعْشَى:
لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ مُوَفَّقُ
وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ.
وَمَدُّ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا يُزَالُ مَا عَلَيْهَا مِنْ جِبَالٍ كَمَا يُمَدُّ الْأَدِيمُ فَتَزُولُ انْثِنَاءَاتُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٥- ١٠٧].
_________
(١) رد على الخفاجي.
(٢) رد على الطَّيِّبِيّ وسعدي.
219
وَمِنْ مَعَانِي الْمَدِّ أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنِ اتِّسَاعِ مِسَاحَةِ ظَاهرهَا بتشققها بالزلازل وَبُرُوزِ أَجْزَاءٍ مِنْ بَاطِنِهَا إِلَى سَطْحِهَا.
وَمِنْ مَعَانِي الْمَدِّ أَنْ يُزَالَ تَكْوِيرُهَا بِتَمَدُّدِ جِسْمِهَا حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الِاسْتِطَالَةِ بَعْدَ التَّكْوِيرِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُؤْذِنُ بِاخْتِلَالِ نِظَامِ سَيْرِ الْأَرْضِ وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الجاذبية وَمَا يُحِيط بِالْأَرْضِ مِنْ كُرَةِ الْهَوَاءِ فَيَعْقُبُ ذَلِكَ زَوَالُ هَذَا الْعَالَمِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَلْقَتْ مَا فِيها صَالِحٌ لِلْحَمْلِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَدِّ الْأَرْضِ وَمُحْتَمِلٌ لِأَنْ تَنْقَذِفَ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ أَجْزَاءٌ أُخْرَى يَكُونُ لِانْقِذَافِهَا أَثَرٌ فِي إِتْلَافِ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلَ الْبَرَاكِينِ وَانْدِفَاعِ الصُّخُورِ الْعَظِيمَةِ وَانْفِجَارِ الْعُيُونِ إِلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ طُوفَانٌ.
وَتَخَلَّتْ أَيْ أَخْرَجَتْ مَا فِي بَاطِنهَا فَلَمَّا يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ فِعْلَ تَخَلَّى يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْخُلُوِّ عَنْ شَيْءٍ لِمَا فِي مَادَّةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَكَلُّفِ الْفِعْلِ كَمَا يُقَالُ تَكَرَّمَ فُلَانٌ إِذَا بَالَغَ فِي الْإِكْرَامِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِمَّا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: ٢].
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلَى آخِرِهِ جَوَابُ إِذَا بِاعْتِبَارِ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمُلاقِيهِ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى الْمُبَرِّدِ، أَيْ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ الْأَخِيرَ بِالْفَاءِ فِي الْأَخْبَارِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِمَّا ذُكِرَ مَعَهُ.
فَالْمَعْنَى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ لَاقَيْتَ رَبَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بَعْدَ كَدْحِكَ لِمُلَاقَاتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ كادِحٌ إِدْمَاجًا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ أَمَامَ الْمَقْصُودِ.
وَجَوَّزَ الْمُبَرِّدُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَمُلاقِيهِ وَالتَّقْدِيرُ:
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ إِلَى آخِرِهِ لَاقَيْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ رَبَّكَ.
وَجَوَّزُ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذَا قَوْلَهُ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَإِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ فِي
220
الْجَوَابِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُقْحِمُ الْوَاوَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِذا بَعْدَ (حَتَّى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] أَوْ بَعْدَ (لَمَّا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ [الصافات: ١٠٣، ١٠٤] الْآيَةَ.
وَقِيلَ: الْجَوَابُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: ٧]، وَنُسِبَ إِلَى الْكِسَائِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ.
وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْإِنْسانُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ
كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق: ١٥].
وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ. فَالْخِطَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ زِيَادَةٌ لِلْإِنْذَارِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ تَذْكِيرٌ وَتَبْشِيرٌ. وَقِيلَ: أُرِيدَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ فَقِيلَ: هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ (بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ فِي «الِاسْتِيعَاب» و «الْإِصَابَة» وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا ضَبَطَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ هُوَ فِي «جَامِعِ الْأُصُولِ» بِالْمُهْمَلَةِ)، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا سَبَبَ النُّزُولِ أَوْ هُوَ مَلْحُوظٌ ابْتِدَاءً.
وَالْكَدْحُ: يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لَا نَتَحَقَّقُ أَيُّهَا الْحَقِيقَةُ، وَقَدْ أَهْمَلَ هَذِهِ الْمَادَّةَ فِي «الْأَسَاسِ» فَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّ حَقِيقَتَهُ: إِتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْعَمَلِ وَالْكَدِّ. وَتَعْلِيقُ مَجْرُورِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَمَلٌ يَنْتَهِي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ كادِحٌ مَعْنَى سَاعٍ لِأَنَّ كَدْحَ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ يَتَطَلَّبُونَ بِعَمَلِ الْيَوْمِ عَمَلًا لغد وَهَكَذَا، وَذَلِكَ يَتَقَضَّى بِهِ زَمَنُ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ أَجَلُ حَيَاةِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَيَعْقُبُهُ الْمَوْتُ الَّذِي هُوَ رُجُوعُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِلَى مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ، فَلَمَّا آلَ سَعْيُهُ وَكَدْحُهُ إِلَى الْمَوْتِ جُعِلَ كَدْحُهُ إِلَى رَبِّهِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكَ كَادِحٌ تَسْعَى إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ لِقَاءُ رَبِّكَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ حَرْفِ (إِنَّ)، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ كادِحٌ مَعْنَى مَاشٍ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا لَغْوًا.
وكَدْحاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلِقَةِ لِتَأْكِيدِ كادِحٌ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ، أَيْ سَاعٍ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ وَلَا مَفَرَّ.
221
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي «مُلَاقِيهِ» عَائِدٌ إِلَى الرَّبِّ، أَيْ فَمُلَاقٍ رَبَّكَ، أَيْ لَا مَفَرَّ لَكَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ أُكِّدَ الْخَبَر بإن.
[٧- ١٥]
[سُورَة الانشقاق (٨٤) : الْآيَات ٧ إِلَى ١٥]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١)
وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥)
هَذَا تَفْصِيلُ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:
٦] أَيْ رُجُوعُ جَمِيعِ النَّاسِ أُولَئِكَ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَرِيقٌ آخَرُ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُ
ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ
، وَبَيْنَ مُنْتَهَاهُمَا مَرَاتِبُ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْسِيمِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ أَتْقِيَاءَ وَمُشْرِكِينَ.
وَالْكِتَابُ: صَحِيفَةُ الْأَعْمَالِ، وَجُعِلَ إِيتَاؤُهُ إِيَّاهُ بِيَمِينِهِ شِعَارًا لِلسَّعَادَةِ لِمَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ أَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى تَتَنَاوَلُ الْأَشْيَاءَ الزَّكِيَّةَ وَهَذَا فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ نَشَأَ عَنْ كَوْنِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْجَسَدِ أَقْدَرُ وَأَبْدَرُ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ الْعَزْمُ بِعَمَلِهِ فَارْتَكَزَ فِي النُّفُوسِ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ حَتَّى سَمَّوُا الْبَرَكَةَ وَالسَّعَادَةَ يُمْنًا، وَوَسَمُوا ضِدَّهَا بِالشُّؤْمِ فَكَانَتْ بَرَكَةُ الْيَمِينِ مِمَّا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَصْلِ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٢٨]، وَقَوْلِهِ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: ٢٧]. وَقَوله: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَة [٤١]، وَقَوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ فِي سُورَة الْوَاقِعَةِ [٨، ٩].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِيَمِينِهِ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى (فِي)، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ أُوتِيَ وَحَرْفُ (سَوْفَ) أَصْلُهُ لِحُصُولِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ
222
الْمُسْتَقْبَلُ الْبَعِيدُ وَذَلِكَ هُوَ الشَّائِعُ، وَيُقْصَدُ بِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْبَلِيغِ تَحَقُّقُ حُصُولِ الْفِعْلِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩٨]، وَهُوَ هُنَا مُفِيد للتحقق وَالِاسْتِمْرَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ الْقَابِلِ لِلِاسْتِمْرَارِ وَهُوَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٠].
وَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ: هُوَ عَرْضُ أَعْمَالِهِ عَلَيْهِ دُونَ مُنَاقَشَةٍ فَلَا يَطُولُ زَمَنُهُ فَيُعَجَّلُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَعْمَالُهُ صَالِحَةً، فَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ.
ومَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ هُوَ الْكَافِرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، أَيْ يُعْطَى كِتَابَهُ مِنْ خَلْفِهِ فَيَأْخُذُهُ بِشَمَالِهِ تَحْقِيرًا لَهُ وَيُنَاوَلُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِظْهَارًا لِلْغَضَبِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ مُنَاوِلُهُ كِتَابَهُ إِلَى وَجْهِهِ.
وَظَرْفُ وَراءَ ظَهْرِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كِتابَهُ ويَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أَيْ يَرْجِعُ. وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جِيءَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ.
وَالْأَهْلُ: الْعَشِيرَةُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَبْنَاءٍ وَقَرَابَةٍ.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُحَاسَبِ حِسَابًا يَسِيرًا فِي الْمَسَرَّةِ وَالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ بَعْدَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، بِحَالِ الْمُسَافِرِ لِتِجَارَةٍ حِينَ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا رَابِحًا لِمَا فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا مِنْ وَفْرَةِ الْمَسَرَّةِ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالسَّلَامَةِ وَلِقَاءِ الْأَهْلِ وَكُلِّهِمْ فِي مَسَرَّةٍ، فَذَلِكَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْهَيْأَتَيْنِ وَهُوَ السُّرُورُ الْمَأْلُوفُ لِلْمُخَاطَبِينَ فَالْكَلَامُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ رُجُوعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ قَبْلُ حَتَّى يُقَالَ لِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ انْقِلَابٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ أَهْلٌ. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ الرَّاحَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَارَقَ الْمَتَاعِبَ زَمَانٌ.
223
وَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ فِي قَوْله: يَدْعُوا ثُبُوراً النِّدَاءُ، أَيْ يُنَادِي الثُّبُورَ بِأَنْ يَقُولَ: يَا ثُبُورِي، أَوْ يَا ثُبُورًا، كَمَا يُقَالُ: يَا وَيْلِيَ وَيَا وَيْلَتَنَا.
وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ وَسُوءُ الْحَالِ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا مَنْ وَقَعَ فِي شَقَاءٍ وَتَعْسٍ.
وَالنِّدَاءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّوَجُّعِ مِنْ مَعْنَى الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ حَرْفِ النِّدَاءِ.
وَيَصْلى قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ صَلَاهُ إِذَا أَحْرَقَهُ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَيَصْلى بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مُضَارِعُ صَلِيَ اللَّازِمِ إِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ كَقَوْلِهِ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: ١٥].
وَانْتَصَبَ سَعِيراً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ بِتَقْدِيرِ يَصْلَى بِسَعِيرٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا لَفْظُ النَّارِ وَنَحْوُهُ مَنْصُوبًا بَعْدَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الصِّلِيِّ وَالتَّصْلِيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠] فَانْظُرْهُ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ انْقَلَبَتْ
مِنْ ذَلِكَ السُّرُورِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِمَا حُكِيَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: ٣١] فَآلُوا إِلَى أَلَمِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى دَعَوْا بِالثُّبُورِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ مِنْ شَأْنِ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي التَّعْجِيبِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ:
«إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ» (أَيْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ إِلَى آخِرِهَا.
وَحَرْفُ (إِنَّ) فِيهَا مُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّعْلِيلِ، فَالْمَعْنَى: يَصْلَى سَعِيرًا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، أَيْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ، يُقَالُ: حَارَ
224
يَحُورُ، إِذَا رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى حَالَةٍ كَانَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَهُوَ مِنَ الْمجَاز الشَّائِع مثل إِطْلَاقِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ [يُونُس: ٢٣] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: ٨] وَسُمِّيَ يَوْمُ الْبَعْثِ يَوْمَ الْمَعَادِ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ وَتَأْيِيدِهِ لِحِكَايَةِ جَزْمِهِمْ وَقَطْعِهِمْ بِنَفْيِهِ.
وَحَرْفُ بَلى يُجَابُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَنْفِيُّ لِإِبْطَالِ نَفْيِهِ وَأَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ النَّفْيِ نَحْوَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَاف: ١٧٢] وَيَقَعُ بَعْدَ غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: ٧].
وَمَوْقِعُ بَلى الِاسْتِئْنَافُ كَأَحْرُفِ الْجَوَابِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً مُبَيِّنَةٌ لِلْإِبْطَالِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ بَلى عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ يَعْنِي أَنَّ ظَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ رَبَّهُ أَنْبَأَهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّهُ عَلِيمٌ بِمَآلِهِ. وَتَأْكِيدُ ذَلِكَ بِحَرْفِ إِنَّ لِرَدِّهِ إِنْكَارَهُ الْبَعْثَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآلَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَرْفِ الْإِبْطَالِ وَمِنْ حَرْفِ التَّأْكِيدِ إِلَى مَعْنَى: أَنَّ رَبَّهُ بَصِيرٌ بِهِ وَأَمَّا هُوَ فَغَيْرُ بَصِيرٍ بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٦].
وَتَعْدِيَةُ بَصِيراً بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ بَصُرَ الْقَاصِرِ بِضَمِّ الصَّادِ بِهِ إِذَا رَآهُ رُؤْيَةً مُحَقَّقَةً، فَالْبَاءُ فِيهِ مَعْنَاهَا الْمُلَابَسَةُ أَوِ الْإِلْصَاقُ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِكْمَةِ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّ رَبَّ النَّاسِ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ فَمِنْهُمُ الْمُصْلِحُ وَمِنْهُمُ الْمُفْسِدُ وَالْكُلُّ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ يَذْهَبَ الْمُفْسِدُ بِفَسَادِهِ وَمَا أَلْحَقَهُ بِالْمَوْجُودَاتِ مِنْ مَضَارَّ وَأَنْ يُهْمَلَ صَلَاحُ الْمُصْلِحِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَجَعَلَهَا لِلْجَزَاءِ عَلَى مَا قَدَّمَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ الْأُولَى.
وَأُطْلِقَ الْبَصَرُ هُنَا عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ بِالشَّيْءِ.
225
وَعُلِّقَ وَصْفُ (بَصِيرٍ) بِضَمِيرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، وَالْمُرَادُ: الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ لَا بِذَاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَجْرُورِ أَيْ بَصِيرٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ مَعَ مُرَاعَاة الفواصل.
[١٦- ١٩]
[سُورَة الانشقاق (٨٤) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٩]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: ٧] إِلَى هُنَا: فَإِنَّهُ اقْتَضَى أَنَّ ثَمَّةَ حِسَابًا وَجَزَاءً بِخَيْرٍ وَشَرٍّ فَكَانَ هَذَا التَّفْرِيعُ فَذْلَكَةً وَحَوْصَلَةً لِمَا فُصِّلَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَكَانَ أَيْضًا جَمْعًا إِجْمَالِيًّا لِمَا يَعْتَرِضُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ: «لَا أُقْسِمُ» يُرَادُ مِنْهُ أُقْسِمُ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالْمَخْلُوقَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [١٥].
وَمُنَاسَبَةُ الْأُمُورِ الْمُقْسَمِ بِهَا هُنَا لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّفَقَ وَاللَّيْلَ وَالْقَمَرَ تُخَالِطُ أَحْوَالًا بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَظُهُورِ النُّورِ مَعَهَا، أَوْ فِي خِلَالِهَا، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَحْوَال الَّتِي يختبط فِيهَا النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ ظُهُورِ أَحْوَال خير من خِلَالِ أَحْوَالِ شَرٍّ أَوِ انْتِظَارِ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ إِلَى مَا يُرْضِيهِمْ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَعَلَّ ذِكْرَ الشَّفَقِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ حَالَةَ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ مِثْلُ حَالَةِ
الْمَوْتِ، وَأَنَّ ذِكْرَ اللَّيْلِ إِيمَاءٌ إِلَى شِدَّةِ الْهَوْلِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَذِكْرَ الْقَمَرِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالشَّفَقُ: اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي أُفُقِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِثْرَ غُرُوبِهَا وَهُوَ ضِيَاءٌ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا حَجَبَهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ بَعْضُ جَرْمِ الْأَرْضِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ عَقِبَ الِاحْمِرَارِ شَفَقًا.
226
وَ (مَا وَسَقَ) (مَا) فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولَةً عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ.
وَالْوَسْقُ: جَمْعُ الْأَشْيَاء بَعْضهَا إِلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا جَمَعَ مِمَّا كَانَ مُنْتَشِرًا فِي النَّهَارِ مِنْ نَاسٍ وَحَيَوَانٍ فَإِنَّهَا تَأْوِي فِي اللَّيْلِ إِلَى مَآوِيهَا وَذَلِكَ مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْ طَلَبِ الْأَحْيَاءِ السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَص: ٧٣]، وَذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّكْوِينِ فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِهِ قَسَمًا أُدْمِجَتْ فِيهِ مِنَّةٌ. وَقِيلَ: مَا وَسَقَهُ اللَّيْلُ: النُّجُومُ، لِأَنَّهَا تَظْهَرُ فِي اللَّيْلِ، فَشَبَّهَ ظُهُورَهَا فِيهِ بِوَسْقِ الْوَاسِقِ أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَهَذَا أَنْسَبُ بِعَطْفِ الْقَمَرِ عَلَيْهِ.
وَاتِّسَاقُ الْقَمَرِ: اجْتِمَاعُ ضِيَائِهِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْوَسْقِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ، وَتَقْيِيدُ الْقَسَمِ بِهِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ بِضِيَائِهِ.
وَأَصْلُ فعل اتّسق: اَوْ تسق قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً فَوْقِيَّةً طَلَبًا لِإِدْغَامِهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ وَهُوَ قَلْبٌ مُطَّرِدٌ.
وَجُمْلَةُ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ نُسِجَ نَظْمُهَا نَسْجًا مُجْمَلًا لِتَوْفِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي تَذْهَبُ إِلَيْهَا أَفْهَامُ السَّامِعِينَ، فَجَاءَتْ عَلَى أَبْدَعِ مَا يُنْسَجُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُرْسَلُ إِرْسَالَ الْأَمْثَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ الْبَدِيعِ النَّسْجِ الْوَافِرِ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ تَأْوِيلَاتُ الْمُفَسِّرِينَ لَهَا.
فَلِمَعَانِي الرُّكُوبِ الْمَجَازِيَّةِ، وَلِمَعَانِي الطَّبَقِ مِنْ حَقِيقِيٍّ وَمَجَازِيٍّ، مُتَّسَعٌ لِمَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ مَا جَعَلَ لِإِيثَارِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُصُوصِيَّةً مِنْ أَفْنَانِ الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ.
فَأَمَّا فِعْلُ لَتَرْكَبُنَّ فَحَقِيقَتُهُ مُتَعَذَّرَةٌ هُنَا وَلَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي
الْكَلَامِ أَوِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ فِي الْآيَةِ عِدَّةٌ، مِنْهَا الْغَلَبُ وَالْمُتَابَعَةُ، وَالسُّلُوكُ، وَالِاقْتِحَامُ، وَالْمُلَازَمَةُ، وَالرِّفْعَةُ.
227
وَأَصْلُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِمَّا اسْتِعَارَةٌ وَإِمَّا تَمْثِيلٌ يُقَالُ: رَكِبَ أَمْرًا صَعْبًا وَارْتَكَبَ خَطَأً.
وَأَمَّا كَلِمَةُ طَبَقٍ فَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي شَيْئًا آخَرَ فِي حَجْمِهِ وَقَدْرِهِ، وَظَاهِرُ كَلَام «الأساس» و «الصِّحَاح» أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِقَيْدِ كَوْنِ الطَّبَقِ أَعْلَى مِنَ الشَّيْءِ لِمُسَاوِيهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الغطاء فَيكون من الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِمَعْنًى مُقَيَّدٍ كَالْخِوَانِ وَالْكَأْسِ، وَظَاهِرُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فَيَكُونُ قَيْدُ الِاعْتِلَاءِ عَارِضًا بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: طَابَقَ النَّعْل النَّعْل.
وأيّا مَا كَانَ فَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُطَابَقَةِ كَاشْتِقَاقِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ ثُمَّ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ وَتُنُوسِيَ مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ اسْمَ الطَّبَقِ وَهُوَ الغطاء لوحظ فِيهِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَجَاءَتْ مِنْهُ مَادَّةُ الْمُطَابَقَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فَيَكُونُ مِنَ الْمُشْتَقَّاتِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ.
وَيُطْلَقُ اسْمًا مُفْرَدًا لِلْغِطَاءِ الَّذِي يُغَطَّى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ» أَيْ غِطَاءَهُ وَهَذَا مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْغِطَاءَ مُسَاوٍ لِمَا يُغَطِّيهِ. وَيُطْلَقُ الطَّبَقُ عَلَى الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مُلَابِسَةٌ لِصَاحِبِهَا كَمُلَابَسَةِ الطَّبَقِ لِمَا طُبِقَ عَلَيْهِ.
وَيُطْلَقُ اسْمًا مُفْرَدًا أَيْضًا عَلَى شَيْءٍ مُتَّخَذٍ مِنْ أُدُمٍ أَوْ عُودٍ وَيُؤْكَلُ عَلَيْهِ وَتُوضَعُ فِيهِ الْفَوَاكِهُ وَنَحْوُهَا، وَكَأَنَّهُ سُمِّيَ طَبَقًا لِأَن أَصله أَن يُسْتَعْمَلُ غِطَاءَ الْآنِيَةِ فَتُوضَعُ فِيهِ أَشْيَاءُ.
وَيُطْلَقُ اسْمَ جَمْعٍ لِطَبَقَةٍ: وَهِيَ مَكَانٌ فَوْقَ مَكَانٍ آخَرَ مُعْتَبَرٍ مِثْلُهُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَّا أَنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ يُقَالُ: أَتَانَا طَبَقٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَمَاعَةٌ.
وَيُقَارِنُ اخْتِلَافُ مَعَانِي اللَّفْظَيْنِ اخْتِلَافَ مَعْنَى عَنْ مِنْ مُجَاوَزَةٍ وَهِيَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ، أَوْ مِنْ مُرَادَفَةِ كَلِمَةِ (بَعْدَ) وَهُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ.
وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ وَجْهِ النَّصْبِ لِلَفْظِ طَبَقًا بَيْنَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْحَالِ، وَتَزْدَادُ هَذِهِ الْمَحَامِلُ إِذَا لَمْ تُقْصَرِ الْجُمَلُ عَلَى مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ مِنْ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ آيَةِ:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الانشقاق: ٦] الْآيَاتِ. وَمِنْ وُقُوعِهَا بَعْدَ الْقَسَمِ الْمُشْعِرِ
228
بِالتَّأْكِيدِ، وَمِنِ اقْتَضَاءِ فِعْلِ الْمُضَارَعَةِ بَعْدَ الْقَسَمِ أَنَّهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ. فَتَتَرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ لِتَأْوِيلِ الْآيَةِ.
فَقِيلَ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَتَنْوِينُ «طَبَقٍ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وعَنْ بِمَعْنَى (بَعْدَ) وَالْبُعْدِيَّةُ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَهِيَ بُعْدِيَّةُ ارْتِقَاءٍ، أَيْ لَتُلَاقُنَّ هَوْلًا أَعْظَمَ مِنْ هَوْلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: ٨٨]. وَإِطْلَاقُ الطَّبَقِ عَلَى الْحَالَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْحَالَةَ مُطَابِقَةٌ لِعَمَلِ صَاحِبِهَا.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ تَفْسِيرَ الْأَحْوَالِ بِأَنَّهَا أَحْوَالُ مَوْتٍ وَإِحْيَاءٍ، وَحَشْرٍ، وَسَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، وَنَعِيمٍ أَوْ جحيم، كَمَا كتب اللَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ تَكْوِينِهِ رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضُعَفَاءُ، أَوْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي تَعْيِينِ الْحَالِ.
وَقِيلَ: لَتَرْكَبُنَّ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ عَلَى أَنَّ طبقًا اسْم للمنزلة، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْ لَتَصِيرُنَّ مِنْ طَبَقِ الدُّنْيَا إِلَى طَبَقِ الْآخِرَةِ، أَوْ إِنَّ قَوْمًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَة، فالتنوين فيهمَا للتنويع.
وَقِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى صَلَاحٍ دَعَاهُ إِلَى صَلَاحٍ آخَرَ وَمَنْ كَانَ عَلَى فَسَادٍ دَعَاهُ إِلَى فَسَادِ فَوْقَهُ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَجُرُّ إِلَى شَكْلِهِ، أَيْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بِالْمَوْعِظَةِ وَتَكُونُ عَنْ عَلَى هَذَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِلْمُجَاوَزَةِ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرُّكُوبُ مَجَازًا فِي السَّيْرِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَيْ لَتَحْضُرُنَّ لِلْحِسَابِ جَمَاعَاتٍ بَعْدَ جَمَاعَاتٍ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة: ٣٠] وَهَذَا تهديد لمنكريه، وَأَن يَكُونُ الرُّكُوبُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُتَابَعَةِ، أَيْ لَتَتَّبِعُنَّ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ:
«تَرْكَبُنَّ» بِتَقْدِيرِ: لَيَتَّبِعَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيْ فِي تَصْمِيمِكُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ هُوَ قَوْلُهُ: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ وَيَكُونُ طَبَقاً مَفْعُولًا بِهِ وَانْتِصَابُ طَبَقاً إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ (تَرْكَبُنَّ) وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِمَعَانِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ.
229
وَمَوْقِعُ عَنْ طَبَقٍ مَوْقِعُ النَّعْتِ لِ طَبَقاً وَمَعْنَى عَنْ إِمَّا الْمُجَاوزَة، وَإِمَّا مُرَادِفَةٌ مَعْنَى (بَعْدَ) وَهُوَ مجَاز ناشىء عَنْ مَعْنَى الْمُجَاوزَة، وَلذَلِك لما ضَمَّنَ النَّابِغَةُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: «وَرِثُوا الْمَجْدَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ» غَيَّرَ حَرْفَ
(عَنْ) إِلَى كَلِمَةَ (بَعْدَ) فَقَالَ:
لِآلِ الْجِلَاحِ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرٍ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَتَرْكَبُنَّ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى خِطَابِ النَّاسِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الانشقاق: ٦]. وَحُمِلَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّاءَ الْفَوْقِيَّةَ تَاءُ الْمُؤَنَّثَةِ الْغَائِبَةِ وَأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ تَعْتَرِيهَا أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ مِنَ الِانْشِقَاقِ وَالطَّيِّ وَكَوْنُهَا مَرَّةً كَالدِّهَانِ وَمَرَّةً كَالْمُهْلِ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: هِيَ عِدَةٌ بِالنَّصْرِ، أَيْ لَتَرْكَبُنَّ أَمْرَ الْعَرَبِ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ وَفَتْحًا بَعْدَ فَتْحٍ كَمَا وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ (أَيْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ حِينَ قَوِيَ جَانِبُ الْمُسْلِمِينَ) فَيَكُونُ بِشَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بِالْفَاءِ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: ١٤] وَجُمْلَةِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:
٢٠]. وَهَذَا الْوَجْهُ يَجْرِي عَلَى كلتا الْقِرَاءَتَيْن.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة الانشقاق (٨٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)
وَيجوز أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيعُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْوَالِ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِ (مَنْ) الْمَوْصُولَةِ كُلُّ مَنْ تَحِقُّ فِيهِ الصِّلَةُ فَجَرَى الضَّمِيرُ عَلَى مَدْلُولِ (مَنْ) وَهُوَ الْجَمَاعَةُ. وَالْمَعْنَى: فَمَا لَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَهْوَالَ يَوْمِ لِقَاءِ اللَّهِ فَيُؤْمِنُوا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: ٦]، أَيْ إِذَا تَحَقَّقْتَ ذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْإِنْكَار والتعجيب خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ
230
شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِمَوْعِظَتِهِمْ أَهَمُّ فَالضَّمِيرُ الْتِفَاتٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: ١٩] فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِالْمُشْرِكِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أَهَمُّ فِي هَذِهِ الْمَوَاعِظِ. وَالضَّمِيرُ أَيْضًا الْتِفَاتٌ.
وَيَجُوزُ تَفْرِيعُهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْقَسَمُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُقْسَمِ بِهَا بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ الْقَسَمِ بِهَا أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفَرُّدِهِ بِالْأُلْهِيَّةِ فَفِي ذِكْرِهَا تَذْكِرَةٌ بِدَلَالَتِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَالِالْتِفَاتُ هُوَ هُوَ.
وَتَرْكِيبُ «مَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» يَشْتَمِلُ عَلَى (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مُخْبِرٌ عَنْهَا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ لَهُمْ حَالٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.
وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَفِي إِنْكَارِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الْعَجِيبِ الْمُنْكَرِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَعْنَى التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ.
وَجُمْلَةُ: لَا يُؤْمِنُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَإِنَّهَا لَوْ وَقَعَ فِي مَكَانِهَا اسْمٌ لَكَانَ مَنْصُوبًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: ٨٨] وَالْحَالُ هِيَ مَنَاطُ التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَرْكِيبِهِ وَفِي الصِّيَغِ الَّتِي وَرَدَ عَلَيْهَا أَمْثَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦].
وَمُتَعَلِّقُ يُؤْمِنُونَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
وَيَجُوزُ تَنْزِيلُ فِعْلِ يُؤْمِنُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ لَا يَتَّصِفُونَ بِالْإِيمَانِ، أَيْ مَا سَبَبُ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤمنين، لظُهُور الدَّلَائِل عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ.
وَالْمَعْنَى: التَّعْجِيبُ وَالْإِنْكَارُ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ صِدْقِ مَا دُعُوا إِلَيْهِ وَأُنْذِرُوا بِهِ.
231
وَ (لَا يَسْجُدُونَ) عُطِفَ عَلَى لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ ظَرْفٌ قُدِّمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَنْوِيهِ شَأْنِ الْقُرْآنِ.
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهُ تَبْلِيغٍ وَدَعْوَةٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَادًا وَقَدْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ: «لَا تَغُشُّنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا» وَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ.
وَالسُّجُودُ مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَن: ٦] وَقَوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النَّحْل: ٤٨]، أَي إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَخْضَعُونَ لِلَّهِ وَلِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَحُجَّتِهِ، وَلَا يُؤمنُونَ بحقيته وَدَلِيلُ هَذَا الْمَعْنَى مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: ٢٢].
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ سَجْدَةً مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ سُجُودَاتِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاجِبَةٌ.
وَالْأَرْجَحُ أَنَّ عزائم السُّجُود المسنونة إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَهِيَ الَّتِي رُوِيَتْ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَإِنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ غَيْرَ الْإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً رُوِيَتْ فِيهَا أَخْبَارٌ أَنَّهَا سَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا مِنْهَا هَذِهِ وَعَارَضَتْهَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى فَهِيَ: إِمَّا قَدْ تَرَكَ سُجُودَهَا، وَإِمَّا لَمْ يُؤَكِّدْ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ السُّجُودُ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ اهـ.
قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ ذَلِكَ فِي السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْإِحْدَى عَشْرَةَ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ:
«الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ عَزَائِمَ السُّجُودِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِزِيَادَة سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمَفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: سَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِزِيَادَةِ سَجْدَةِ سُورَةِ النَّجْمِ وَسَجْدَةِ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ وَسَجْدَةِ سُورَةِ الْعَلَقِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هُنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً بِزِيَادَةِ السَّجْدَةِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ فَفِيهَا سَجْدَتَانِ عِنْده.
232

[سُورَة الانشقاق (٨٤) : آيَة ٢٢]

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢)
يَجُوزُ أَنَّهُ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَإِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَالْكَلَامُ ارْتِقَاءٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ.
فَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي يَسْتَرْوِحُ مِنْهُ اسْتِحْضَارَ الْحَالَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلِ إِضْرَابًا إِبْطَالِيًّا، أَيْ لَا يُوجَدُ مَا لِأَجْلِهِ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ بَلِ الْوَاقِعُ بِضِدِّ ذَلِكَ فَإِنَّ بَوَاعِثَ الْإِيمَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ مُتَوَفِّرَةٌ وَدَوَاعِي الِاعْتِرَافِ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ وَالْخُضُوعِ لِدَعْوَتِهِ مُتَظَاهِرَةٌ وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ، أَيْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ عنادا وكبرياء ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ [الانشقاق: ٢٣].
وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ نَظِيرُ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [٩- ١٠] بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ
وَفِي اجْتِلَابِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِ التَّكْذِيبِ مِنْهُمْ وَتَجَدُّدِهِ، أَيْ بَلْ هُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ عِنَادًا وَلَيْسَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا فَكَمَا نُفِيَ عَنْهُمْ تَجَدُّدُ الْإِيمَانِ وَتَجَدُّدُ الْخُضُوعِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أُثْبِتَ لَهُمْ تَجَدُّدُ التَّكْذِيبِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: بَلْ هُمْ يُكَذِّبُونَ، فَعُدِلَ إِلَى الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لما تؤذن بِهِ الصِّلَةُ مِنْ ذَمِّهِمْ بِالْكُفْرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ لِتَأَصُّلِ الْكُفْرِ فِيهِمْ وَكَوْنِهِمْ ينعتون بِهِ.
[٢٣]
[سُورَة الانشقاق (٨٤) : آيَة ٢٣]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: ٢٢]، وَجُمْلَةِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: ٢٤] وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ بِسُوءِ طَوِيَّتِهِمْ.
وَمَعْنَى بِما يُوعُونَ بِمَا يُضْمِرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعِنَادِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ حَقٌّ وَلَكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ التَّكْذِيبَ بِهِ لِيَكُونَ صُدُودُهُمْ عَنْهُ مَقْبُولًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَبَيْنَ مُجَاوِرِيهِمْ.
وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِيعَاءِ: جَعْلُ الشَّيْءِ وِعَاءً الْوِعَاء بِكَسْرِ الْوَاوِ الظَّرْفُ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى جَمْعِ الْأَشْيَاءِ لِئَلَّا تَفُوتَ فَصَارَ مُشْعِرًا بِالتَّقْتِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: ١٨]
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»
وَاسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِخْفَاءِ لِأَنَّ الْإِيعَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْإِخْفَاءَ فَهُوَ هُنَا مجَاز مُرْسل.
[٢٤]
[سُورَة الانشقاق (٨٤) : آيَة ٢٤]
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: ٢٢].
وَفِعْلُ «بَشِّرْهُمْ» مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّبْشِيرِ:
الْإِخْبَارُ بِمَا يَسُرُّ وَيَنْفَعُ. فَلَمَّا عُلِّقَ بِالْفِعْلِ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَانَتْ قَرِينَةُ التَّهَكُّمِ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ.
وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مرداة طحونا
[٢٥]
[سُورَة الانشقاق (٨٤) : آيَة ٢٥]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا: إِمَّا عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: ١٩] جَرْيًا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِرُكُوبِ طِبَاقِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ التَّهْدِيدِ.
وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي «فبشرهم» [الانشقاق: ٢٤] وَالْمَعْنَى إِلَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُونَ الْآنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَة: ١٦٠] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ [١٠] : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
234
الْآيَةَ وَفِعْلُ آمَنُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى: مَنْ تَحَقَّقَ إِيمَانُهُمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: ٢٠] إِلَى هُنَا تَفْرِيعٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ خُصَّ بِهِ الْأَهَمُّ مِمَّنْ شَمِلَهُمْ عُمُومُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: ١٩].
وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ ضَمِيرِ فَبَشِّرْهُمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّبْشِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّهَكُّمِ زِيَادَةً فِي إِدْخَالِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ. فَحَرْفُ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ (لَكِن) والاستدراك فِيهِ لِمُجَرَّدِ الْمُضَادَّةِ لَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إِرَادَةِ ضِدِّ ذَلِكَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِدْرَاكِ، وَأَمَّا تَعْرِيفُ بَعْضِهِمُ الِاسْتِدْرَاكَ بِأَنَّهُ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ، فَهُوَ تَعْرِيفٌ تَقْرِيبِيٌّ.
وَجُمْلَةُ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ حَالُهُمْ يَوْمَ يَكُونُ أُولَئِكَ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ؟
وَالْأَجْرُ غَيْرُ الْمَمْنُونِ هُوَ الَّذِي يُعْطَاهُ صَاحِبُهُ مَعَ كَرَامَةٍ بِحَيْثُ لَا يَعْرِضُ لَهُ بِمِنَّةٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَحْقَاف: ١٤] وَنَحْوُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مَعَ الْجَزَاءِ سَبَبُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُمْ سُرُورٌ لَهُمْ لَا تَشُوبُهُ شَائِبَةُ كَدَرٍ فَإِنَّ الْمَنَّ يُنَغِّصُ الْإِنْعَامَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤] وَقَالَ النَّابِغَةُ:
عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ
وَمِنْ نَوَابِغِ الْكَلِمِ لِلْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ: طَعْمُ الْآلَاءِ أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ. وَهُوَ أَمَرُّ مِنَ الْآلَاءِ مَعَ الْمَنِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِمَعْنَى غَيْرِ مَقْطُوعٍ يُقَالُ: مَنَنْتَ الْحَبْلَ، إِذَا قَطَعْتَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَة: ٣٢، ٣٣].
سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْخَارِجِيَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: غَيْرُ مَمْنُونٍ فَقَالَ:
غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ عَرَفَهُ أَخُو يَشْكُرَ (يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ حِلِّزَةَ) حَيْثُ يَقُولُ:
فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرجْ عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ
الْمَنِينُ: الْغُبَارُ لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ وَرَاءَهَا.
235

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٨٥- سُورَةُ الْبُرُوجِ
رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ»
. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةُ «السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ» لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْعَشَاءِ بِالسَّمَاوَاتِ»
، أَيْ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاء والطارق فمجمعها جَمْعَ سَمَاءٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ السُّورَتَيْنِ: سُورَةُ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، سُورَةُ السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ.
وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ الْبُرُوجِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَمَعْدُودَةٌ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ «وَالشَّمْس وَضُحَاهَا» وَقبل سُورَة «التِّينِ».
وَآيُهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَةً.
مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ
ابْتُدِئَتْ أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لِلَّذِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مِثْلُ قَوْمٍ فَتَنُوا فَرِيقًا مِمَّنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَجَعَلُوا أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ لِتَعْذِيبِهِمْ لِيَكُونَ الْمَثَلُ تَثْبِيتًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَتَذْكِيرَهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى سَلَفِهِمْ فِي الْإِيمَانِ مِنْ شِدَّةِ التَّعْذِيبِ الَّذِي لَمْ يَنَلْهُمْ مِثْلُهُ وَلَمْ يَصُدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ.
236
سورة الإنشقاق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الانشقاق) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الانفطار)، وقد افتُتحت ببيان ما يسبق يومَ القيامة من أهوالٍ، وجاءت على ذكرِ أحوال الناس عند لقاء الله، وفي جزائهم وتقسيمهم إلى صِنْفَينِ: صنفٍ آمن بهذا اليوم فهو من أهل الجنان، وصنفٍ كذَّب به فهو من أهل النيران.

ترتيبها المصحفي
84
نوعها
مكية
ألفاظها
109
ترتيب نزولها
83
العد المدني الأول
25
العد المدني الأخير
25
العد البصري
23
العد الكوفي
25
العد الشامي
23

* سورة (الانشقاق):

سُمِّيت سورة (الانشقاق) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {إِذَا اْلسَّمَآءُ اْنشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].

* سورة (الانشقاق) من السُّوَر التي وصفت أحداثَ يوم القيامة بدقة؛ لذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو الصحابةَ إلى قراءتها:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن سَرَّه أن ينظُرَ إلى يومِ القيامةِ كأنَّه رأيَ عينٍ، فَلْيَقرأْ: {إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، و{إِذَا اْلسَّمَآءُ اْنفَطَرَتْ}، و{إِذَا اْلسَّمَآءُ اْنشَقَّتْ}». أخرجه الترمذي (٣٣٣٣).

1. من أهوال يوم القيامة (١-٥).

2. أحوال الإنسان عند لقاء ربه (٧-١٥).

3. أحوال الإنسان في هذه الحياة (١٦-٢٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /75).

إثباتُ هولِ يوم القيامة، وما يسبقه من أحداث، وتنعيمُ اللهِ أولياءَه يوم الحساب؛ لأنَّهم صدَّقوا بهذا اليوم وآمَنوا به، وعقاب الله لمن كفَر بهذا اليوم؛ لأنهم كانوا لا يُقِرُّون بالبعث والعَرْضِ على الملك الذي أوجَدهم وربَّاهم؛ كما يَعرِض الملوك عبيدَهم، ويحكُمون بينهم؛ فينقسمون إلى أهل ثواب، وأهل عقاب، واسمها (الانشقاق) دالٌّ على ذلك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /172).