تفسير سورة الإنشقاق

لطائف الإشارات

تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات.
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الانشقاق
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «١» «بِسْمِ اللَّهِ» : اسم جليل جلاله لا بالأشكال، وجماله لا على احتذاء أمثال، وأفعاله لا بأغراض وأعلال، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال، فهو الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال.
قوله جل ذكره:
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)
«انْشَقَّتْ» : انصدعت.
«وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» أي قابلت أمر ربّها بالسمع والطاعة.. وحقّ لها أن تفعل ذلك.
«وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» بسطت باندكاك آكامها وجبالها حتى صارت ملساء، وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلّت عنها.. وقابلت أمر ربها بالسمع والطاعة.
وجواب هذه الأشياء في قوله: «فَمُلاقِيهِ» أي يلقى الإنسان ما يستحقه على أعماله. «٢»
قوله جل ذكره: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ».
(١) نعيد إلى الذاكرة ما قلناه من قبل من حدوث افتراق بين النسختين بين تفسير بسملتى «المطففين» و «الانشقاق».
(٢) يرى الكسائي- ويوافقه أبو جعفر النحاس وغيره- أن جواب القسم هو: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ... » أي: إذا انشقت السماء فمن أوتى كتابه بيمينه فحكمه كذا..
705
«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» : يا أيها المكلّف.. إنّك ساع بما لك سعيا ستلقى جزاءه بالخير خيرا وبالشّرّ شرّا.
«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» وهو المؤمن المحسن.
«فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» أي حسابا لا مشقّة فيه. ويقال: «حِساباً يَسِيراً» أي يسمعه كلامه- سبحانه- بلا واسطة، فيخفّف سماع خطابه ما في الحساب من عناء.
ويقال: «حِساباً يَسِيراً» : لا يذكّره ذنوبه. ويقال: يقول: ألم أفعل كذا؟ وألم أفعل كذا؟ يعدّ عليه إحسانه.. ولا يقول: ألم تفعل كذا؟ لا يذكّره عصيانه.
«وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» أي بالنجاة والدرجات، وما وجد من المناجاة، وقبول الطاعات، وغفران الزّلّات.
ويقال: بأن يشفّعه فيمن يتعلّق به قلبه. ويقال: بألا يفضحه.
ويقال: بأن يلقى ربّه ويكلّمه قبل أن يدخله الجنة فيلقى حظيّته من الحور العين.
قوله جل ذكره: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» وهو الكافر.
«فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً»..
أي ويلا.
«وَيَصْلى سَعِيراً» جهنم.
«إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً»
706
من البطر «١» والمدح.
«إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» أنه لن يرجع إلينا، ولن يبعث.
قوله جل ذكره: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» بالحمرة التي تعقب غروب الشمس.
«وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» وما جمع وضمّ.
«وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» تمّ واستوى واجتمع.
ويقال: الشّفق حين غربت شمس وصالهم، وأذيقوا الفراق في بعض أحوالهم، وذلك زمان قبض بعد بسط، وأوان فرق عقيب جمع «٢». «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» : ليالى غيبتهم وهم بوصف الاستياق أو ليالى وصالهم وهم في روح التلاقي، أو ليالى طلبهم وهم بنعت القلق والاحتراق.
«وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» : إذا ظهر سلطان العرفان على القلوب فلا بخس ولا نقصان.
قوله جل ذكره:
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
أي حالا بعد حال. وقيل: من أطباق السماء. ويقال: شدّة بعد شدّة.
ويقال: تارات الإنسان طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا.
ويقال: طالبا ثم واصلا ثم متّصلا.
ويقال: حالا بعد حال، من الفقر والغنى، والصحة والسّقم.
ويقال: حالا بعد حال في الآخرة.
(١) هكذا في ص وهي في م (النظر) والسياق يقتضى (البطر) فهو من أشد آفات الطريق خطرا- كما نعرف من مذهب القشيري.
(٢) فى م (وأوان فراق بعد جمع) والاصطلاحان الصوفيان الملائمان هما (الفرق والجمع).
707
قوله جل ذكره: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟» أي فما لكفّار أمّتك لا يصدّقون.. وقد ظهرت البراهين؟
«وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» «يُوعُونَ» أي تنطوى عليه قلوبهم- من أوعيت المتاع في الظّرف أي جعلته فيه.
«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم ليسوا منهم، ولهم أجر غير مقطوع.
708
سورة الإنشقاق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الانشقاق) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الانفطار)، وقد افتُتحت ببيان ما يسبق يومَ القيامة من أهوالٍ، وجاءت على ذكرِ أحوال الناس عند لقاء الله، وفي جزائهم وتقسيمهم إلى صِنْفَينِ: صنفٍ آمن بهذا اليوم فهو من أهل الجنان، وصنفٍ كذَّب به فهو من أهل النيران.

ترتيبها المصحفي
84
نوعها
مكية
ألفاظها
109
ترتيب نزولها
83
العد المدني الأول
25
العد المدني الأخير
25
العد البصري
23
العد الكوفي
25
العد الشامي
23

* سورة (الانشقاق):

سُمِّيت سورة (الانشقاق) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {إِذَا اْلسَّمَآءُ اْنشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].

* سورة (الانشقاق) من السُّوَر التي وصفت أحداثَ يوم القيامة بدقة؛ لذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو الصحابةَ إلى قراءتها:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن سَرَّه أن ينظُرَ إلى يومِ القيامةِ كأنَّه رأيَ عينٍ، فَلْيَقرأْ: {إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، و{إِذَا اْلسَّمَآءُ اْنفَطَرَتْ}، و{إِذَا اْلسَّمَآءُ اْنشَقَّتْ}». أخرجه الترمذي (٣٣٣٣).

1. من أهوال يوم القيامة (١-٥).

2. أحوال الإنسان عند لقاء ربه (٧-١٥).

3. أحوال الإنسان في هذه الحياة (١٦-٢٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /75).

إثباتُ هولِ يوم القيامة، وما يسبقه من أحداث، وتنعيمُ اللهِ أولياءَه يوم الحساب؛ لأنَّهم صدَّقوا بهذا اليوم وآمَنوا به، وعقاب الله لمن كفَر بهذا اليوم؛ لأنهم كانوا لا يُقِرُّون بالبعث والعَرْضِ على الملك الذي أوجَدهم وربَّاهم؛ كما يَعرِض الملوك عبيدَهم، ويحكُمون بينهم؛ فينقسمون إلى أهل ثواب، وأهل عقاب، واسمها (الانشقاق) دالٌّ على ذلك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /172).