ﰡ
أحدها: أن تكون شرطية.
والثاني: أن تكون غير شرطية.
فعلى الأول في جوابها خمسة أوجه:
أحدها: أنها ﴿َأَذِنَتْ﴾ [الانشقاق: ٢، ٥] والواو مزيدة.
قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن العرب لا تقتحم الواو إلا مع «حتى إذا» كقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣]، أو مع «لمَّا» كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ﴾ [الصافات: ١٠٣، ١٠٤]، أي: ناديناه، والواو لا تقحم مع غير هذين.
الثاني: أنه «فمُلاقيهِ» أي فأنت ملاقيه وإليه ذهب الأخفش.
والثالث: أنّه «يا أيُّها الإنسانُ» أيضاً، ولكن على إضمار القول: أي: يقال: «يا أيُّهَا الإنسَانُ».
والخامس: أنَّه مقدَّرٌ، تقديره: بعثتم.
وقيل: تقديره: لاقى كل إنسان كدحه وهو قوله: «فمُلاقِيهِ» ويكون قوله: «يا أيُّهَا الإنسَانُ» معترض، كقولك: إذا كان كذا وكذا - يا أيها الإنسان - ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر.
وقيل: هو ما صرَّح به في سورتي «التَّكوير» و «الانفطار»، وهو قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [الانفطار: ٥]، قاله الزمخشري، وهو حسنٌ.
ونقل ابن الخطيب عن الكسائيِّ، أنه قال: إنَّ الجواب هو قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾ [الانشقاق: ٧]، واعترض في الكلام على قوله: ﴿يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً﴾ [الانشقاق: ٦].
والمعنى: إذا انشقت السماء وكان كذا وكذا فمن أوتي كتابه بيمنه فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ﴾ [البقرة: ٣٨].
قال النحاسُ: وهذا أصحُّ ما قيل فيه وأحسنه.
وعلى الاحتمال الثاني: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها منصوبة مفعولاً بها بإضمار «واذْكُرْ».
والثاني: أنها مبتدأ، وخبرها «إذَا» الثانية، و «الواو» مزيدة، تقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش أيضاً.
والعامل فيها إذا كانت ظرفاً - عند الجمهور - جوابها، إمَّا الملفوظ به، وإمَّا المقدَّر.
وقال مكيٌّ: وقيل: العامل «انشقت».
وقال ابن عطية: قال بعض النحاة: العامل «انشقت» وأبي ذلك كثير من أئمتهم؛ لأن «إذا» مضافة إلى «انشقت»، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة، ويقوى معنى الجزاء.
وقرأ العامة: «انشقتْ» بتاء التأنيث ساكنة، وكذلك ما بعده.
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد بن عقيل: بإشمام الكسر في الوقف خاصة، وفي الوصل خاصة بالسكون المحض.
قال أبو الفضلِ: وهذا من التغييرات التي تلحق الروي في القوافي، وفي هذا
وقال ابن عطية: قال بعض النحاة: وقرأ أبو عمرو «انشقت» يقف على القاف، كأنه يشمها شيئاً من الجر، وكذلك في أخواتها.
قال أبو حاتم: سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات.
وقال ابن خالويه: «انشقَّت» - بكسر التاء - عبيد عن أبي عمرو.
قال شهاب الدين: كأنه يريد إشمام الكسر، وأنَّه في الوقف دون الوصل؛ لأنه مطلق، وغيره مقيد، والمقيد يقضي على المطلق.
وقال أبو حيَّان: وذلك أن الفواصل تَجْرِي مَجْرَى القوافي، فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي تكسر في الفواصل؛ ومثال كسرها في القوافي؛ قول كثير عزّة: [الطويل]
٥١٣٣ - ومَا أنَا بالدَّاعِي لعَزَّةَ بالرَّدَى | وَلا شَامتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ |
فصل في المراد بانشقاق السماء
انشقاق السماء من علامات القيامة، وقد تقدَّم شرحه.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّها تنشق من المجرَّة، وقال: المجرَّة: باب السماء.
قوله: ﴿وَأَذِنَتْ﴾. عطف على «انشقت»، وقد تقدَّم أنَّه جواب على زيادة الواو.
ومعنى «وأذنت» : أي: استمعت أمره، يقال: أذنت لك: استمعت لك، وفي الحديث: «مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كأذنِهِ لِنَبيِّ يَتغنَّى بالقُرْآنِ».
٥١٣٤ - صُمٌّ إذَا سَمِعُوا خَيْرَاً ذُكِرْتُ بِهِ | وإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عندهُمْ أذِنُوا |
٥١٣٥ - إن يأذنُوا ريبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحَاً | ومَا هُمُ إذِنُوا من صالحٍ دَفنُوا |
٥١٣٦ - إذِنْتُ لَكُمْ لمَّا سَمِعْتُ هَرِيركُمْ.....................................
ومعنى الاستعارة - هاهنا - أنَّه لم يوجد في جِرْمِ السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها، وتفريق أجزائها، فكأنَّها في قبول ذلك التأثير كالعبدِ الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت، وأذعن، ولم يمتنع كقوله تعالى: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، وذلك يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً. قاله ابن الخطيب.
قوله: «وحُقَّتْ». الفاعل في الأصل هو الله تعالى، أي: حقَّ الله عليها ذلك، أي: بسمعهِ وطاعته، يقال: هو حقيقٌ بكذا ومحقوق، والمعنى: وحقَّ لها أن تفعل.
قال الضحاكُ: «حَقَّتْ» أطاعت وحقَّ لها أن تُطِيعَ.
وقال ابن الخطيب: وهو من قولك: محقوقٌ بكذا وحقيقٌ به، وهي حقيقة بأن تنقاد، ولا تمتنع.
قوله: ﴿وَإِذَا الأرض مُدَّتْ﴾ مد الأديم.
وقيل: «مُدَّتْ» بمعنى: أمدت وزيد في سعتها وقال مقاتلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سُويت كمدّ الأديمِ، فلا يبقى فيها بناء ولا جبل، كقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال﴾ [طه: ١٠٥] الآية.
ومعنى «وأذنت » : أي : استمعت أمره، يقال : أذنت لك : استمعت لك، وفي الحديث :«مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كأذنِهِ لِنَبيِّ يَتغنَّى بالقُرْآنِ »١.
وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزَّجاج قول قعنب :[ البسيط ]
٥١٣٤- صُمٌّ إذَا سَمِعُوا خَيْرَاً ذُكِرْتُ بِهِ *** وإنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عندهُمْ أذِنُوا٢
وقال آخر :[ البسيط ]
٥١٣٥- إن يأذنُوا ريبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحَاً *** ومَا هُمُ إذِنُوا من صالحٍ دَفنُوا٣
وقال الجحاف بن حكيم :[ الطويل ]
٥١٣٦- إذِنْتُ لَكُمْ لمَّا سَمِعْتُ هَرِيركُمْ***. . . ٤
ومعنى الاستعارة - هاهنا - أنَّه لم يوجد في جِرْمِ السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها، وتفريق أجزائها، فكأنَّها في قبول ذلك التأثير كالعبدِ الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت، وأذعن، ولم يمتنع كقوله تعالى :﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ]، وذلك يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً. قاله ابن الخطيب٥.
قوله :«وحُقَّتْ ». الفاعل في الأصل هو الله تعالى، أي : حقَّ الله عليها ذلك، أي : بسمعهِ وطاعته، يقال : هو حقيقٌ بكذا ومحقوق، والمعنى : وحقَّ لها أن تفعل.
قال الضحاكُ :«حَقَّتْ » أطاعت وحقَّ لها أن تُطِيعَ٦.
وقال ابن الخطيب٧ : وهو من قولك : محقوقٌ بكذا وحقيقٌ به، وهي حقيقة بأن تنقاد، ولا تمتنع.
٢ قائله قعنب ابن أم صاحب من شعراء عصر بني أمية ينظر ديوان الحماسة للتبريزي ٢/١٨٧، وسمط اللآلىء ١/٣٦٢، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب: ص ٢٩٢، ومجاز القرآن ٢/٢٩١، ومعاني القرآن وإعرابه ٥/٣٠٣، والطبري ٣٠/٧٢، واللسان (أذن)..
٣ تقدم..
٤ صدر بيت وعجزه:
... *** فأسمعتموني بالخنا والفواحش.
ينظر الكشاف ٤/٧٢٥، والدر المصون ٦/٤٩٧..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٩٤..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٠٥) عن الضحاك ومثله عن السدي ذكره السيوطي ف ي"الدر المنثور" (٦/٥٤٧) وعزاه إلى ابن المنذر..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٩٤..
وقيل :«مُدَّتْ » بمعنى : أمدت وزيد في سعتها وقال مقاتلٌ رضي الله عنه : سُويت كمدّ الأديمِ، فلا يبقى فيها بناء ولا جبل، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال ﴾١ [ طه : ١٠٥ ] الآية.
قوله تعالى: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾. تقدَّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار؛ لأن الأوَّل في السماء وهذا في الأرض.
قوله
: ﴿يا
أيها
الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ﴾.
قيل: المراد جنس الإنسان، كقولك: يا أيها الرجل، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس.
قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين، بخلاف اللفظ العام.
وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والمعنى: أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده، وتحمل الضرر من الكفَّار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: هو أبيّ بن خلفٍ، وكدحه: هو جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والإصرار على الكفر.
فصل في المراد بالكدح
الكَدْحُ: قال الزمخشريُّ: جَهْدُ النفس، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه، ومعنى «كادح» أي: جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت. انتهى. وقال ابن نفيلِ: [الطويل]
٥١٣٧ - ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا | أمُوتُ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ |
٥١٣٨ - ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ | وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ |
وقال الخليل: الكدحُ دون الكدم.
فصل في معنى الآية
معنى «كادحُ إلى ربِّك» أي: ساع إليه في عملك.
والكدحُ: عمل الإنسان وجهده في الخير والشر.
قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ: عامل لربك عملاً، وقوله تعالى: ﴿إلى رَبِّكَ﴾ أي: إلى لقاء ربك، وهو الموت، أي: هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن.
وقال القفال: تقديره: أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك.
قوله: «فمُلاقِيهِ» : يجوز أن يكون عطفاً على [ «إنك] كادح»، والسبب فيه ظاهر، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت ملاقيه، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
وقال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه. يعني بقوله: «على هذا» أي: على عود الضَّمير على كدحكَ.
قال أبو حيَّان: «ولا يتعين ما قاله، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات».
والضميرُ في «فملاقيه» : إمَّا للربِّ، أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه. قاله الزجاج.
وإمَّا ل «الكدح» إلا أن الكدحَ عمل، وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد: جزاءُ كدحكَ.
وقال ابنُ الخطيب: المراد: ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا بقوله بعده: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾.
﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً﴾، «سوف» من الله واجب، كقول القائل: اتبعني فسوف تجد خيراً، فإنه لا يريد الشك، وإنما يريد تحقيق الكلام، والحساب اليسير: هو عرض أعماله، فيثاب على الطاعة، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ، ولا يقال: لم فعلت هذا، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ «، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً﴾ فقال:» إنَّما ذَلِكَ العرضُ، ولَكِنْ من نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب «».
قوله تعالى: ﴿وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ﴾ في الجنة من الحُورِ العينِ، والآدميَّات والذريَّات إذا كانوا مؤمنين [ «مَسْرُوراً» أي: مُغْتَبِطَاً قرير العين].
قال ابنُ الخطيب: فإن قيل: إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه؟.
فالجواب: إن العبد يقول: إلهي، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول: فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين، فتلك المكالمة محاسبة.
قوله: «مَسْرُوراً» : حال من فاعل «يَنْقَلِبُ».
وقرأ زيد بن علي: «يُقْلَبُ» مبنياً للمفعول من «قلبه» ثلاثياً.
قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ﴾.
قيل: نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ. قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: عامة.
وقال الكلبيُّ: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره.
وقيل: يحوَّلُ وجهه إلى قفاه، فيقرأ كتابه كذلك.
وقيل: يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك، وأوتي كتابه بشماله.
فالجواب: أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.
قوله: ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً﴾، أي: ينادي بالويل، الهلاك إذا قرأ كتابه يقول: يا ويلاه يا ثُبُورَاهُ، كقوله تعالى: ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان: ١٣].
قوله: ﴿ويصلى سَعِيراً﴾، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم: بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام.
والباقون: بضم الياء وفتح اللام والتثقيل، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ [النساء: ١٠].
وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو في رواية عنهم: «يُصْلَى» بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً﴾.
قال القفال: مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد، مقدماً على المعاصي، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل: إن قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً﴾، كقوله تعالى:
﴿وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين: ٣١]، أي: متنعمين في الدنيا، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله، والتكذيب بالبعث، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ».
قوله: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾. معنى «يَحُور» أي: يرجع، يقال: حَارَ يَحُورُ حَوْرَاً؛ قال لبيدٌ: [الطويل].
٥١٣٩ - ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ | يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ |
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ما كنت أدري ما معنى: «حَوْر» حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته: «حُورِي» أي: ارجعي.
وقال عكرمة وداود بن أبي هند: «يَحُور» : كلمة بالحبشية، ومعناها: يرجع.
قال القرطبي: «ويجوز أن تتفق الكلمتان، فإنَّهما كلمة اشتقاق، ومنه: الخبز الحُوارى، لأنه يرجع إلى البياض».
والحُور أيضاً: الهلاك.
قال الراجز: [الرجز].
٥١٤٠ - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى ولا شَعَرْ... وقوله تعالى: ﴿أَن لَّن يَحُورَ﴾ :«أن لن» هذه «أن» المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة، وهي سادَّة مسد المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقوله: «بَلَى» جواب للنفي في «لن»، و «أن» : جواب قسم مقدر، والمعنى: إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث، ثم قال: «بَلَى» أي: ليس كما ظن بلى يحور إلينا، أي: يبعث.
﴿إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً﴾ [قال الكلبي: بصيراً به من يوم خلقة إلى أن يبعثه.
وقال عطاء: بصيراً] بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة.
قال صلى الله عليه وسلم :«مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ »، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى :﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾، فقال :" إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب " ١.
قال ابنُ الخطيب٢ : فإن قيل : إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه ؟.
فالجواب : إن العبد يقول : إلهي، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول : فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين، فتلك المكالمة محاسبة.
قوله :«مَسْرُوراً » : حال من فاعل «يَنْقَلِبُ ».
وقرأ زيد٣ بن علي :«يُقْلَبُ » مبنياً للمفعول من «قلبه » ثلاثياً.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٩٧..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٣٩، والدر المصون ٦/٤٩٨..
قيل : نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ. قاله ابنُ عباسٍ. وقيل : عامة.
وقال الكلبيُّ : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره١.
وقيل : يحوَّلُ وجهه إلى قفاه، فيقرأ كتابه كذلك.
وقيل : يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه ؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك، وأوتي كتابه بشماله.
[ فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾٢ [ الحاقة : ٢٥ ]، فكيف قال هنا :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ ﴾ ؟.
فالجواب : أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.
٢ سقط من ب..
والباقون١ : بضم الياء وفتح اللام والتثقيل، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى :﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ [ النساء : ١٠ ].
وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو٢ في رواية عنهم :«يُصْلَى » بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه.
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٥٨، والبحر المحيط ٨/٤٣٩، والدر المصون ٦/٤٩٨..
قال القفال١ : مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد، مقدماً على المعاصي، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل : إن قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ ﴾ [ المطففين : ٣١ ]، أي : متنعمين في الدنيا، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله، والتكذيب بالبعث، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب، كما قال صلى الله عليه وسلم :«الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ »٢.
٢ تقدم تخريجه..
٥١٣٩- ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ | يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ١ |
وقال الراغب :«الحَوْرُ : التردد في الأمر، ومنه :«نعوذ بالله من الحور بعد الكور »، أي : من التردد في الأمر بعد المضي فيه، ومحاورة الكلام : مراجعته، والمحور : العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه، والمحار : المرجع والمصير ».
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما كنت أدري ما معنى :«حَوْر » حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته :«حُورِي » أي : ارجعي٢.
وقال عكرمة وداود بن أبي هند :«يَحُور » : كلمة بالحبشية، ومعناها : يرجع٣.
قال القرطبي :«ويجوز أن تتفق الكلمتان، فإنَّهما كلمة اشتقاق، ومنه : الخبز الحُوارى، لأنه يرجع إلى البياض ».
والحُور أيضاً : الهلاك.
قال الراجز :[ الرجز ].
٥١٤٠- *** فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى ولا شَعَرْ٤ ***
وقوله تعالى :﴿ أَن لَّن يَحُورَ ﴾ :«أن لن » هذه «أن » المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة، وهي سادَّة مسد المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
٢ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٨٠)..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٤٨) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد.
ومثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٤٨) وعزاه إلى الطستي في مسائله والطبراني..
٤ تقدم..
﴿ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً ﴾ [ قال الكلبي : بصيراً به من يوم خلقه إلى أن يبعثه.
وقال عطاء : بصيراً ]١ بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة.
وقال الزمخشري: «الشفق» الحُمْرة التي ترى في الغروب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء، إلا ما روي عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين: أنه البياض. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه، سمي شفقاً لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان، رقة القلب عليه انتهى.
والشَّفَقُ: شفقان، الشَّفَقُ الأحمر، والآخر: الأبيض، والشفقُ والشفقةُ: اسمان للإشفاق؛ وقال الشاعر: [البسيط]
٥١٤١ - تَهْوَى حَياتِي وأهْوَى مَوْتَهَا شَفقاً | والمَوْتُ أكْرَمُ نَزَّالٍ على الحُرمِ |
واعلم أن الصحيح في الشفق: أنَّه الحمرة؛ لأن أكثر الصحابة، والتابعين، والفقهاء عليه، وشواهد [كلام العرب]، والاشتقاق، والسنة تشهد له.
وقال الفراء: «وسمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ أحمر كأنه الشفق».
وقال الشاعر: [الرجز]
٥١٤٢ - وأحْمَرُ اللَّوْنِ كحُمَرِّ الشَّفقْ... وقال آخر: [البسيط]
٥١٤٣ - قُمْ يا غُلامُ أعنِّي غَيْرَ مُرتَبِكٍ | على الزَّمانِ بكأسٍ حَشوُهَا شَفَقُ |
وفي «الصِّحاح» : الشَّفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قرب من العتمة.
وقال الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب قيل: غاب الشفق.
وزعم بعض الحكماء: أن البياض لا يغيب أصلاً.
وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية، فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق، ولم أره يغيب.
وقال ابن أبي أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر، وكل ما يتجدّد وقته سقط اعتباره.
وروى النعمانُ بن بشيرٍ، قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصليها لسقوط القمر لثالثة. وهذا تحديد.
وقال مجاهد: الشفق النهار كله؛ لأنه عطف عليه ﴿والليل وَمَا وَسَقَ﴾، فوجب أن يكون الأول هو النهار، فعلى هذا يكون القسم واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والثاني: سكن، والشفقُ أيضاً: الرديء من الأشياء، يقال: عطاء مشفق، أي: مقلل؛ قال الكميتُ: [الكامل]
٥١٤٤ - مَلِكٌ أغَرُّ مِن المُلُوكِ تَحلَّبَتْ | للسَّائلينَ يَداهُ غَيْرُ مُشفِّقِ |
٥١٤٥ - إنَّ لَنَا قَلائصاً حقَائِقَا | مُستوسِقَاتٍ لوْ يَجِدْنَ سَائِقَا |
٥١٤٦ - ويَوْماً تَرَانَا صَالحينَ وتَارَةً | تَقُومُ بِنَا كالواسِقِ المُتلبِّبِ |
فصل في معنى الآية
قال عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ومَا وسقَ»، أي: وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فالوسقُ، بمعنى الطرد، ومنه قيل للطَّريد من الإبل والغنم: وسيقه.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «وما وسق» أي: وما جنَّ وستر.
وعنه أيضاً: وما حمل، ووسَقَتِ الناقة تَسِقُ وسْقاً: أي: حملت وأغلقت رحمها على الماء فهي ناقة واسق، ونوق وساق، مثل: نائم ونيام، وصاحب وصحاب، ومواسيق أيضاً، وأوسقتُ البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها.
وقال يمانٌ والضحاك ومقاتلُ بن سليمان: حمل من الظلمة.
وقال مقاتلٌ: حمل من الكواكب.
وقال ابنُ جبيرٍ: «وما وسق» أي: وما حمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار.
قوله: ﴿والقمر إِذَا اتسق﴾. أي: امتلأ. قال الفراء: وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر. وهو «افتعل» من «الوسق» وهو الضم والجمع كما تقدم، وأمر فلان متسقٌّ: أي: مجتمع على الصلاح منتظم، ويقال: اتسق الشيء إذا تتابع.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «إذا اتَّسَقَ» أي: استوى واجتمع وتكامل وتمَّ واستدار.
قوله: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾ هذا جواب القسم.
وقرأ الأخوان، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومسروق، وأبو وائل، ومجاهدٌ والنخعيُّ، والشعبيُّ، وابن جبيرٍ: بفتح الباء على الخطاب للواحد.
فالقراءة الأولى: رُوعي فيها إمَّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى: ﴿يا أيها الإنسان﴾ [الانشقاق: ٦]، وإما خطاب غيره.
فقيل: خطابٌ للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم، أو لتبدلن أنصاراً مسلمين، من قولهم: النَّاس طبقات ولتركبن سماء [بعد سماء]، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.
وقيل: التاء للتأنيث، والفعل مسندٌ لضمير السماء.
قال ابن مسعود: لتركبن السماء حالاً بعد حالٍ تكون كالمهل وكالدخان، وتنفطر وتنشق.
والقراءة الثانية: رُوي فيها معنى الإنسان؛ إذ المراد به: الجنس، أي: لتركبنَّ أيُّها الإنسان حالاً بعد حال من كونه نطفة، ثم مضغة، ثم حياً، ثم ميتاً وغنياً وفقيراً.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره، وقوله بعد ذلك «فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي: لتركبن حالاً بعد حال من شدائد يوم القيامة، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب، والاختلاف على الأنبياء.
وقال مقاتلٌ: يعني الموت ثم الحياة.
وعن ابن عباسٍ: يعني: الشدائد والأهوال والموت، ثم البعث، ثم العرض.
وقال عكرمة: رضيع، ثم فطيم [ثم غلام،] ثم شابٌّ، ثم شيخ.
قال ابن الخطيب: ويصلح أن يكون هذا خطاباً للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم
وقرأ عمرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ليركبُنَّ» بياء الغيبة وضم الباء على الإخبار عن الكفار.
وقرأ عمر - أيضاً - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بالغيبة، وفتح الباء، أي: ليركبنَّ الإنسان.
وقيل: ليركبنَّ القمر أحوالاً من إسرارٍ والاستهلالِ.
وقرأ عبد الله وابنُ عباسٍ: «لتركبُنَّ» بكسر حرف المضارعة، وقد تقدم في «الفاتحة».
وقرأ بعضهم: بفتح المضارعة وكسر الباء، على إسناد الفعل للنفس، أي: لتركبن يا نفس.
قوله: «طبقاً» : مفعول به أو حال.
والطبق قال الزمخشريُّ: الطَّبق: ما طابق غيره، يقال: ما هذا بطبق كذا: أي: لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء: الطَّبقُ، وأطباقُ الثَّرى ما تطابق منه، ثم قيل للحال المُطابقَة لغيرها طبق، ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿طَبَقاً عَن طَبَقٍ﴾ أي: حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة، وهي المرتبة، من قولهم: هو على طبقاتٍ، ومنه طبقات الظهر لفقاره، الواحدة: طبقة على معنى: لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض وهي الموت، وما بعده من مواطن القيامة انتهى.
وقيل: المعنى: لتركبن هذه الأحوال أمَّة بعد أمَّة؛ ومنه قول العباس فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [المنسرح]
٥١٤٧ - تُنقَلُ مِنْ صالبٍ إلى رحِمٍ | وإذَا مَضَى عالمٌ بَدَا طَبَقُ |
وأما قول الأقرع: [البسيط]
قال امرؤ القيس:
٥١٤٩ - ديمة هطلاً... والطبق من الجراد أي الجماعة].
قوله: «عَنْ طَبقٍ» : في «عن» هذه وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال من فاعل «تركبن».
والثاني: أنَّها صفة ل «طبقاً».
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل «عن طبق» ؟ قلت: النصب على أنه صفة ل «طبقاً»، أي: طبقاً مجاوزاً لطبقٍ، [أو حال من الضمير في «لتركبن»، أي: لتركبن طبقاً مجاوزين لطبقٍ، أو مجاوراً]، أو مجاورة على حسب القراءة.
وقال أبو البقاء: و «عن» بمعنى: «بعد» ؛ قال: [الكامل]
٥١٥٠ - مَا زِلْتُ أقْطَعُ مُنْهَلاً عَنْ مَنْهَلٍ... حَتَّى أنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الوَاحدِ
لأن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء، يكون الثاني بعد الأول فصلحت «بعد» و «عن» للمجاوزة، والصحيح أنها على بابها، وهي صفة، أي: طبقاً حاصلاً عن طبق، أي: حالاً عن حالٍ. وقيل: جيلاً عن جيل. انتهى.
يعني الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به، هل هو الحال، أو الجيل، أو الأمة كما تقدم نقله؟ وحينئذ فلا نعرب طبقاً مفعولاً به، بل حالاً، كما تقدم، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به، وفيه نظر، لما تقدم من استحالته، يعني إذ يصير التقدير: لتركبن طبقة أمَّةٍ عن أمَّةٍ، فتكون الأمة مركوبة لهم، وإن كان يصح على تأويل بعيدٍ جداً وهو حذف مضاف، أي: لتركبن سنن، أو طريقة طبق بعد طبق.
فصل في حدوث العالم
هذا أدلُّ على «حدوث العالم» وإثبات الصانع.
وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانعاً؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوَّة، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة.
قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾. يعني: أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضَّحت لهم الآيات والدِّلالات، وهذا استفهام إنكارٍ.
وقيل: تعجب أي: اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
وقوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ حال.
قال ابنُ الخطيب: فما لهم لا يؤمنون بالبعث والقيامة، وهو استفهام إنكارٍ، وإنَّما يحسن عند ظهور الحُجَّة، وذلك أنه - تعالى - أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها وهو ظلمة الليل، وكذا قوله: ﴿والليل وَمَا وَسَقَ﴾ فإنه يدل على حدوث ظلمةٍ بعد نورٍ، وعلى تغييرات أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النَّومِ، وكذا قوله تعالى: ﴿والقمر إِذَا اتسق﴾ فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد نقصانه ثم إنه أقسم - تعالى - بهذه الأحوال المتغيرة على تغيير أحوال الخلق، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث، لأن القادر على تغيير الأحوال العلوية والسفلية من حال إلى حال بحسب المصالح، لا بد وان يكون قادراً، ومن كان كذلك لا محالة قادر على البعث والقيامة، فلما كانت هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة بصحة البعث، لا جرم قال تعالى على سبيل الاستبعاد: ﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾.
فصل في الكلام على الآية
قال القاضي: «لا يجوز أن يقول الحكيم لمن كان عاجزاً عن الإيمان: ﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾، وهذا يدل على كونهم قادرين، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل، وأن يكونوا موجدين لأفعالهم، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها ألبتة». وجوابه تقدم.
قوله: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ﴾ شرط، جوابه ﴿لاَ يَسْجُدُونَ﴾، وهذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال نسفاً على ما قبلها، أي: فما لهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، أي: لا يصلون قاله ابن عباس: وعطاء، والكلبي، ومقاتل [وقال أبو مسلم: المراد الخضوع والاستكانة.
وقيل: المراد نفس السجود لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سجد فيها.
قوله تعالى: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ﴾. العامّة: على ضمِّ الياء من «يكذبون» وفتح الكاف وتشديد الذَّال.
والضحاكُ وابنُ أبي عبلة: بالفتح والإسكان والتخفيف [وتقدمت هاتان القراءتان أول البقرة].
والمعنى: يُكذِّبُون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به.
قال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير، وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم.
وقيل: هو في جميع الكفار.
قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾. هذه هي قراءة العامة، من أوعى يُوعِي، أي: بما يضمرون في أنفسهم من التكذيب، رواه الضحاك عن ابن عباسٍ.
وقال مجاهدٌ: يكتمون من أفعالهم.
وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه، يقال: وعيت الزَّاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء؛ قال الشاعر: [البسيط]
٥١٤٨ - إنِّي امرؤٌ قَدْ حَلبْتُ الدَّهْرَ أشْطرَهُ | وسَاقَنِي طَبَقٌ منهُ إلى طَبقٍ |
٥١٥١ - ألخَيْرُ أبْقَى وإنْ طَال الزَّمانُ بِهِ | والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوعَيْتَ مِنْ زَادِ |
قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، أي: مُؤلمٍ في جهنَّم على تكذيبهم وكفرهم، أي: جعل ذلك بمنزلة البشارة.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ : يجوز أن يكون متصلاً، وأن يكون منقطعاً، هذا إذا كانت الجملة من قوله: «لَهُمْ أجْرٌ» : مستأنفة أو حالية، أمَّا إذا كان الموصول مبتدأ والجملة خبره، فالاستثناء ليس من قبيل استثناء المفردات، ويكون من قسم المنقطعِ، أي: لكن الذين آمنوا لهم كيت وكيت.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ فقال: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم، قد عرفه أخو يشكر؛ حيث يقول: [الخفيف]
٥١٥٢ - فَتَرَى خَلفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ | عِ مَنِيناً كأنَّهُ أهْبَاءُ |
وقال بعضهم: ليس هنا استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا.
وقد مضى القول فيه في سورة البقرة، والله تعالى أعلم.
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَة ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ أعاذهُ اللهُ - تَعَالَى - أن يُعْطيهُ كِتابهُ وَراءَ ظَهْرهِ» وحسبنا الله ونعم الوكيل.
٥١٤٥- إنَّ لَنَا قَلائصاً حقَائِقَا | مُستوسِقَاتٍ لوْ يَجِدْنَ سَائِقَا١ |
٥١٤٦- ويَوْماً تَرَانَا صَالحينَ وتَارَةً | تَقُومُ بِنَا كالواسِقِ المُتلبِّبِ٢ |
فصل في معنى الآية
قال عكرمة - رضي الله عنه - :«ومَا وسقَ »، أي : وما ساق من شيء إلى حيث يأوي٣ فالوسقُ، بمعنى الطرد، ومنه قيل للطَّريد من الإبل والغنم : وسيقة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - :«وما وسق » أي : وما جنَّ وستر٤.
وعنه أيضاً : وما حمل، ووسَقَتِ الناقة تَسِقُ وسْقاً : أي : حملت وأغلقت رحمها على الماء فهي ناقة واسق، ونوق وساق، مثل : نائم ونيام، وصاحب وصحاب، ومواسيق أيضاً، وأوسقتُ البعير : حملته حمله، وأوسقت النخلة : كثر حملها.
وقال يمانٌ والضحاك ومقاتلُ بن سليمان : حمل من الظلمة٥.
وقال مقاتلٌ : حمل من الكواكب٦.
وقال ابنُ جبيرٍ :«وما وسق » أي : وما حمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار٧.
٢ ينظر اللسان (وسق)ن والقرطبي ١٩/١٨٢، والبحر ٨/٤٤٠، والدر المصون ٦/٤٩٩..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥١١) عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٤٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٤ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٣٧) والقرطبي (١٩/١٨٢)..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٨٢)..
٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٤٦٥) وينظر المصدر السابق..
٧ ينظر المصدر السابق..
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - «إذا اتَّسَقَ » أي : استوى واجتمع وتكامل وتمَّ واستدار١.
وقرأ الأخوان، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومسروق، وأبو وائل، ومجاهدٌ والنخعيُّ، والشعبيُّ، وابن جبيرٍ : بفتح الباء على الخطاب للواحد.
والباقون١ : بضمها على خطاب الجمع.
فالقراءة الأولى : رُوعي فيها إمَّا خطاب الإنسان المتقدم ذكره في قوله تعالى :﴿ يا أيها الإنسان ﴾ [ الانشقاق : ٦ ]، وإما خطاب غيره.
فقيل : خطابٌ للرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : لتركبن يا محمد مع الكفار وجهادهم، أو لتبدلن أنصاراً مسلمين، من قولهم : النَّاس طبقات ولتركبن سماء [ بعد سماء ]٢، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.
وقيل : التاء للتأنيث، والفعل مسندٌ لضمير السماء.
قال ابن مسعود : لتركبن السماء حالاً بعد حالٍ تكون كالمهل وكالدخان، وتنفطر وتنشق٣.
والقراءة الثانية : رُوي فيها معنى الإنسان ؛ إذ المراد به : الجنس، أي : لتركبنَّ أيُّها الإنسان حالاً بعد حال من كونه نطفة، ثم مضغة، ثم حياً، ثم ميتاً وغنياً وفقيراً.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكره قبل هذه الآية فيمن يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه وراء ظهره، وقوله بعد ذلك «فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » أي : لتركبن حالاً بعد حال من شدائد يوم القيامة، أو لتركبن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب، والاختلاف على الأنبياء.
وقال مقاتلٌ : يعني الموت ثم الحياة٤.
وعن ابن عباسٍ : يعني : الشدائد والأهوال والموت، ثم البعث، ثم العرض٥.
وقال عكرمة : رضيع، ثم فطيم [ ثم غلام، ] ٦ ثم شابٌّ، ثم شيخ٧.
قال ابن الخطيب٨ : ويصلح أن يكون هذا خطاباً للمسلمين بتعريف نقل أحوالهم بنصرهم، ومصيرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي تلقونها منهم كما قال تعالى :﴿ لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٨٦ ].
وقرأ عمرُ - رضي الله عنه٩ - :«ليركبُنَّ » بياء الغيبة وضم الباء على الإخبار عن الكفار.
وقرأ عمر - أيضاً - وابن عباس١٠ - رضي الله عنهما - بالغيبة، وفتح الباء، أي : ليركبنَّ الإنسان.
وقيل : ليركبنَّ القمر أحوالاً من إسرارٍ والاستهلالِ.
وقرأ١١ عبد الله وابنُ عباسٍ :«لتركبُنَّ » بكسر حرف المضارعة، وقد تقدم في «الفاتحة ».
وقرأ بعضهم١٢ : بفتح المضارعة وكسر الباء، على إسناد الفعل للنفس، أي : لتركبن يا نفس.
قوله :«طبقاً » : مفعول به أو حال.
والطبق قال الزمخشريُّ١٣ : الطَّبق : ما طابق غيره، يقال : ما هذا بطبق كذا : أي : لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء : الطَّبقُ، وأطباقُ الثَّرى ما تطابق منه، ثم قيل للحال المُطابقَة لغيرها طبق، ومنه قوله - عز وجل- :﴿ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ﴾ أي : حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة، وهي المرتبة، من قولهم : هو على طبقاتٍ، ومنه طبقات الظهر لفقاره، الواحدة : طبقة على معنى : لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض وهي الموت، وما بعده من مواطن القيامة انتهى.
وقيل : المعنى : لتركبن هذه الأحوال أمَّة بعد أمَّة ؛ ومنه قول العباس فيه صلى الله عليه وسلم :[ المنسرح ]
٥١٤٧- تُنقَلُ مِنْ صالبٍ إلى رحِمٍ | وإذَا مَضَى عالمٌ بَدَا طَبَقُ١٤ |
وأما قول الأقرع :[ البسيط ]
٥١٤٨- إنِّي امرؤٌ قَدْ حَلبْتُ الدَّهْرَ أشْطرَهُ | وسَاقَنِي طَبَقٌ منهُ إلى طَبقٍ١٥ |
قال امرؤ القيس :
٥١٤٩- *** ديمة هطلاً١٦ ***
والطبق من الجراد أي الجماعة ]١٧.
قوله :«عَنْ طَبقٍ » : في «عن » هذه وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل «تركبن ».
والثاني : أنَّها صفة ل «طبقاً ».
وقال الزمخشري١٨ : فإن قلت : ما محل «عن طبق » ؟ قلت : النصب على أنه صفة ل «طبقاً »، أي : طبقاً مجاوزاً لطبقٍ، [ أو حال من الضمير في «لتركبن »، أي : لتركبن طبقاً مجاوزين لطبقٍ، أو مجاوراً ]١٩، أو مجاورة على حسب القراءة.
وقال أبو البقاء٢٠ : و«عن » بمعنى :«بعد » ؛ قال :[ الكامل ]
٥١٥٠- مَا زِلْتُ أقْطَعُ مُنْهَلاً عَنْ مَنْهَلٍ | حَتَّى أنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الوَاحدِ٢١ |
يعني الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به، هل هو الحال، أو الجيل، أو الأمة كما تقدم نقله ؟ وحينئذ فلا نعرب طبقاً مفعولاً به، بل حالاً، كما تقدم، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به، وفيه نظر، لما تقدم من استحالته، يعني إذ يصير التقدير : لتركبن طبقة أمَّةٍ عن أمَّةٍ، فتكون الأمة مركوبة لهم، وإن كان يصح على تأويل بعيدٍ جداً وهو حذف مضاف، أي : لتركبن سنن، أو طريقة طبق بعد طبق.
فصل في حدوث العالم
هذا أدلُّ على «حدوث العالم » وإثبات الصانع.
قالت : الحكماء : من كان اليوم على حاله، فليعلم أن تدبيره إلى سواه.
وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانعاً ؟ فقال : تحويل الحالات، وعجز القوَّة، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة.
٢ سقط من أ..
٣ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٣٨) وقال: رواه البزار وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.
وأخرجه الطبري (١٢/٥١٣ – ٥١٤) عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٤٩) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى أبي عبيد في "القراءات" وسعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
وذكره الهيثمي في "المجمع" (٧/٣٩٦) رقم (٣٨٠٤) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات وذكره ابن حجر أيضا في "المطالب العالية" (٣/٣٩٦) رقم (٣٨٠٤) وعزاه إلى أحمد بن منيع..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٨٣)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ سقط من: ب..
٧ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٨٣)..
٨ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٠١..
٩ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٥٩، والبحر المحيط ٨/٤٤٠، والدر المصون ٦/٤٩٩..
١٠ ينظر السابق..
١١ السابق..
١٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٤٠، والدر المصون ٦/٥٠٠..
١٣ الكشاف ٤/٧٢٨..
١٤ ينظر القرطبي ١٩/١٨٤، والبحر ٨/٤٤٠، والدر المصون ٦/٥٠٠..
١٥ ينظر القرطبي ١٩/١٨٤، والدر المصون ٦/٥٠٠ والبحر ٨/٤٣٧..
١٦ ينظر ديوانه (٧٨)، والبحر ٨/٤٣٧، والدر المصون ٦/٥٠٠..
١٧ سقط من ب..
١٨ ينظر: الكشاف ٤/٧٢٨..
١٩ سقط من أ..
٢٠ الإملاء ٢/٢٨٤..
٢١ ينظر الفخر الرازي ٣١/١١٢..
وقيل : تعجب أي : اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
وقوله تعالى :﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ حال.
قال ابنُ الخطيب١ : فما لهم لا يؤمنون بالبعث والقيامة، وهو استفهام إنكارٍ، وإنَّما يحسن عند ظهور الحُجَّة، وذلك أنه - تعالى - أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها وهو ظلمة الليل، وكذا قوله :﴿ والليل وَمَا وَسَقَ ﴾ فإنه يدل على حدوث ظلمةٍ بعد نورٍ، وعلى تغييرات أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النَّومِ، وكذا قوله تعالى :﴿ والقمر إِذَا اتسق ﴾ فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد نقصانه ثم إنه أقسم - تعالى - بهذه الأحوال المتغيرة على تغيير أحوال الخلق، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث، لأن القادر على تغيير الأحوال العلوية والسفلية من حال إلى حال بحسب المصالح، لا بد وأن يكون قادراً، ومن كان كذلك لا محالة قادر على البعث والقيامة، فلما كانت هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة بصحة البعث، لا جرم قال تعالى على سبيل الاستبعاد :﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون ﴾.
فصل في الكلام على الآية
قال القاضي٢ :«لا يجوز أن يقول الحكيم لمن كان عاجزاً عن الإيمان :﴿ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون ﴾، وهذا يدل على كونهم قادرين، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل، وأن يكونوا موجدين لأفعالهم، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها ألبتة ». وجوابه تقدم.
٢ ينظر: السابق..
وقيل : المراد نفس السجود لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها١.
وقال مالك : إنها ليست من عزائم السجود ؛ لأن المعنى لا يدعون ولا يطيعون ]٢.
٢ سقط من ب..
والضحاكُ وابنُ أبي عبلة١ : بالفتح والإسكان والتخفيف [ وتقدمت هاتان القراءتان أول البقرة ]٢.
والمعنى : يُكذِّبُون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
قال مقاتل : نزلت في بني عمرو بن عمير، وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم٣.
وقيل : هو في جميع الكفار.
٢ سقط من ب..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٨٥)..
وقال مجاهدٌ : يكتمون من أفعالهم١.
وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة٢، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه، يقال : وعيت الزَّاد والمتاع : إذا جعلته في الوعاء ؛ قال الشاعر :[ البسيط ]
٥١٥١- ألخَيْرُ أبْقَى وإنْ طَال الزَّمانُ بِهِ | والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوعَيْتَ مِنْ زَادِ٣ |
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥١٧) عن ابن زيد..
٣ البيت لعبيد بن الأبرص ينظر القرطبي ١٩/١٨٥، واللسان (وعي)..
٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٤١، والدر المصون ٦/٥٠١..
وتقدم معنى الممنُون في :«حم » السجدة، وأنَّ معناه : غير منقوص ولا مقطوع، يقال : مننت الحبل : إذا قطعته.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس - رضي الله عنهما - عن قوله :﴿ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ فقال : غير مقطوع، فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قال : نعم، قد عرفه أخو يشكر ؛ حيث يقول :[ الخفيف ]
٥١٥٢- فَتَرَى خَلفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ | عِ مَنِيناً كأنَّهُ أهْبَاءُ١ |
وقال بعضهم : ليس هنا استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال : والذين آمنوا.
وقد مضى القول فيه في سورة البقرة، والله تعالى أعلم.