ﰡ
نزلت بمكة بعد سورة طه عدا الآيتين ٨١ و ٨٢ فإنهما نزلتا في المدينة، وهي ست وتسعون آية، وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة، وألف وسبعمئة وثلاثة أحرف، وقد أشرنا أول سورة التكوير عن السور المبدوءة ب (إذا)، روى البغوي بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا. وكان أبو ضبّة لا يدعها أبدا، أخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول. وجاء في كتاب الأوراد للرفاعي رحمه الله أن قراءتها تكون بعد صلاة المغرب وأنها أمان من الفقر. وسنأتي في آخرها على ما يتعلق في هذا البحث.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» ١ قامت القيامة الكبرى، ووصفت بالوقوع لأن قيامها يكون غفلة بسرعة، كسقوط الشيء من العلو، وجاءت بلفظ الماضي لأنها محققة الوقوع لا محالة، ووقوع الأمر عبارة عن نزوله، تقول وقع به ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقبه، وإذا منصوبة باذكر المقدّرة، أي اذكر يا محمد لقومك كيفية قيام القيامة التي «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» ٢ أي أنها حين تقع لا تجد نفسا إذ ذاك إلا وتصدق بوقوعها بخلاف أهل زمانك، الآن الذين ينكرون وجودها، «خافِضَةٌ» لأقوام كانوا رفيعين في الدنيا متعالين على الناس تخفضهم إلى دركات جهنم بحسب أعمالهم الخبيثة «رافِعَةٌ» ٣ لأناس كانوا وضيعين في الدنيا أذلاء مخبتين ترفعهم إلى أعالي درجات الجنان جزاء أعمالهم الحسنة. واعلم يا سيد الرسل أن امارة قيامها «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا» ٤ اضطربت اضطرابا هائلا قويا فهدم كل بناء عليها «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» ٥ فتّت فتا دقيقا «فَكانَتْ» على عظمها وشموخها «هَباءً مُنْبَثًّا» ٦ غبارا متفرقا كالذر الذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة إلى الأرض«أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ١١ لجوار الله وكرامته الكائنون غدا «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» ١٢ بلا حساب ولا عتاب
وجاءت إليهم ثلة خندفية | بجيش كتيّار من السيل مزبد |
أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم. قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة، وما أنتم من أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، ثم طفق يبين ما أعده في تلك الجنان لهم فقال «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ» ١٥ منسوجة بالذهب موشاة بالجواهر المنيرة «مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» ١٦ على السرر مع أحبابهم، ينظر بعضهم لوجوه بعض عند التخاطب والقعود، وهذا من أحسن أوصاف حسني العشرة صافي الوداد، مهذّبي الأخلاق، والعكس بالعكس، لأن من لا ينظر إليك عند ما تخاطبه لم يبال بك، ومن لا تنظر إليه عند مخاطبته لم تحترمه ولا تعبا به ففيها سوء خلق وقلة أدب وعدم محبّة من الطرفين، هذا ومما أعدّ لهم فيها أيضا خدم كثيرون بدليل قوله عز قوله «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» ١٧ في سن الشبوبة لا يهرمون ولا يموتون خلقهم الله في الجنة لخدمة أهلها لا يتجاوزون حد الوصافة.
واعلم أن لفظة (خلد) كما تدل على البقاء والدوام حقيقة تدل على التسوّر، أي لبس السوار باليد والقرط بالأذان، وعليه يكون المعنى مسورون مقرطون، ولو أراد الله تعالى معنى البقاء والدوام لقال خالدين كما قال في أهل الجنة ولا تجد في القرآن كله مخلّدين غير هذه، ولهذا أقول والله أعلم إن المراد بمخلدين المعنى الأخير، لأن الخادم إذا كان مزينا بالحلي يكون أنضر بعين المخدوم، ولهذا تجد أهل الدنيا يزينون عبيدهم بأحسن اللباس والسلاح المذهب، ولم يصف الحور العين بالتخليد لأن حسنهن أغناهن عنه، والغانية من اكتفت بحسنها عن التزين بالحلي، أي أنهم ليسوا كالحور العين من هذه الحيثية، وما قيل إن الولدان أطفال المؤمنين لا يتجه لأن الله تعالى قال: (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية ٢١ من سورة الطور الآتية في ج ٢، فذراري المؤمنين مع آبائهم في الجنة يخدمون، وهذا حكم الله فيهم ولا راد لحكمه، وما قيل إنهم أولاد الكفار الذين ماتوا قبل سن التكليف لا يصح أيضا، وقد اختلفت أقوال العلماء فيهم، فمنهم من قال إنهم في الجنة وهو الأقرب، لأن الله تعالى لا يعذب قبل التكليف، وإذ لم يعذبوا فهم ناجون، والناجون من أهل الجنة، لأن الأمر يدور بين الجنة والنار، فمن زحزح عن النار فقد دخل الجنة، راجع الآية ٤٥ من سورة الأعراف المارة، ولهذا البحث صلة في الآية ١٨٤ من آل عمران في ج ٣، ما لم يكونوا من الذين سبق ذكرهم في تفسير الآية الأخيرة من سورة طه المارة، ومنهم من قال إنهم من أهل النار تبعا لآبائهم وهو بعيد، لأن الله أكبر من أن يعذب من لم يكلفه، وهم لم يبلغوا حد التكليف كيف وقد قال: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ٢٧ من سورة والنجم المارة وقوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية ١٥ من سورة الإسراء الآتية، وإذا كان من لم تبلغه الدعوة والمجنون الكبير يسقط عنهم التكليف فيدخلون الجنة على ما هم عليه، فكيف بالطفل الذي لا يعقل شيئا، ومنهم من توقف فيهم
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي | بها لطريق العزم من لا له عزم |
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت | لعادت إليه الروح وانتعش الجسم |
على نفسه فليبك من ضاع عمره | وليس له فيها نصيب ولا سهم |
ولهذا بسنّ في كل الأحوال أن يأكل الرجل مما يليه، وإلا فقد أساء الأدب وصار شرها مخالفا لنهي الرسول ﷺ وهذا هو الحكم الشرعي في الأكل
«وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» ٢١ ويخطر في بالهم أكله ويتمنونه من جميع أصناف الطيور، فإنه يحضر أمامهم حالا على الصّفة التي يريدونها من أنواع الطهي «وَحُورٌ عِينٌ» بيض واسعات الأعين وهي في الصفاء «كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» ٢٣ المخزون
«وَماءٍ مَسْكُوبٍ» ٣١ مصبوب في الأكواب مهيأ للشرب موضوع بين أيديهم لا يحتاجون إلى كلفة الغرف والصبّ كلما فرغت آنيته ملئت «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» ٣٢ لأنها «لا مَقْطُوعَةٍ» كفاكهة الدنيا حتى تنفذ في موسمها «وَلا مَمْنُوعَةٍ» ٣٣ من قبل أحد يحول دون قطفها ولا هي تابعة للبيع والشراء لأن أثمار الجنة أدي ثمنها في الدنيا وهي لا تحتاج للتناول بل غصنها نفسه يميل لطالبها ليقطف منها ما يريده ومتى ما قطف صار مكانه، لهذا وصفت بأنها غير مقطوعة وغير ممنوعة «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» ٣٤ عالية ويكنى بها عن
مطلب نساء أهل الجنة والذين يدخلونها بغير حساب:
جاء عن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال: يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين. وعليه فمن كانت عند موتها دون هذا السن أبلغت إليه، ومن كانت فوقه ردت إليه، لأنه سن الكمال في النساء، كما أن الأربعين سن الكمال في الرجال، ومما يدل على هذا ما رواه البغوي بسنده عن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله أدع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز (وهذا من جملة مزحه ﷺ إنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا) قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ في قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ) إلخ قال عجائز تركن الدنيا عمشا رمضا فجعناهن أبكارا إلخ.
وهذا الخير الكثير المار ذكره كله «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» ٣٨ وعشرة أمثاله نسأل الله أن يجعلنا منهم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ٣٩ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» ٤٠ تقدم تفسير مثله، وقد روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن دويم قال:
لما أنزل الله عز وجل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) بكى عمر رضي الله
عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط تصغير رهط وهو دون العشرة وتستعمل للأربعين كما مر في الآية الأولى من سورة الجن المارة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج رسول الله عليهم فقال ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون (أي لا يقرأون على الناس ولا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم من تعاويذ وغيرها لأنهم متوكلون على الله تاركون الأسباب لمسببها) ولا يتطيرون (يتشاءمون من شيء) وعلى ربهم يتوكلون في كل أمورهم.
فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل آخر فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال سبقك بها عكاشة.
وليعلم أن الآية الأخيرة غير ناسخة للأولى، لأن الأولى في السابقين الأولين، وهم قليل بالنسبة للأمم قبلهم، ولذلك قال تعالى وقليل من الآخرين، والآية الثانية في أصحاب اليمين وهم كثير، ولذلك قال وثلة من الآخرين، وما جاء في بكاء عمر وحزنه في الحديث السابق المروي عن عروة والحديث الذي رواه أبو هريرة في معناه وزاد فيه فنسخت، وقليل من الآخرين أي منهم، فيكثرهم الفائزون
ثم بدأ يشرح أحوال الأشقياء حفظنا الله منهم ومما هم صائرون إليه فقال عز قوله «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ» ٤١ فيه تهويل من عظيم ما هم صائرون إليه من شدة العذاب، لأنهم يومئذ يكونون «فِي سَمُومٍ» أشد الرياح حرا يكاد حرها يدخل في مسام الأديم «وَحَمِيمٍ» ٤٢ ماء متناه في الحرارة والغليان يعطونه إذا اشتد عطشهم فيزيد ببلائهم أجارنا الله من ذلك «وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ» ٤٣ دخان بالغ من السواد أقصاه، ثم وصفه بأنه «لا بارِدٍ» لأنه ناشىء عن دخان حار «وَلا كَرِيمٍ» ٤٤ لأنه لا ينفع من يأوي إليه ليستظل به لأن كرم الظل الاسترواح به من وهج الحر، وإنما صيّرهم الله إلى هذه الحالة السيئة بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» الوقوع في هذا العذاب في دنياهم «مُتْرَفِينَ» ٤٥ بنعم الله وقد تقووا بها على معصيته فاستعملوها لغير ما خلقت لها «وَكانُوا» مع ذلك في دنياهم أيضا «يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» ٤٦ يداومون على الذنب الذي يتحنث منه ويتأثم به، يقال بلغ الغلام الحنث أي زمن ما يكون مؤاخذا به على عمله السيء ويعد عليه إثما إذ قبل البلوغ لا يعتد به ولا يعاقب عليه، وقد وصفه بالعظيم ليعلم أن المراد منه الشرك بالله، إذ لا أعظم منه ذنبا «وَكانُوا يَقُولُونَ» بعضهم لبعض فضلا عن ذلك «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» ٤٧ استفهام إنكار وسخرية بالله ورسله الذين أخبروهم بالبعث بعد الموت الذي ينكرونه وخوفوهم عاقبته ويقولون أيضا «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ٤٨ يبعثون أيضا، زيادة في الاستهزاء، وقد جاء هنا العطف على المضمر من غير تأكيد في الضمير المنفصل كما في نحو (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الآية ٣٥ من البقرة في ج ٣، ومثلها
مطلب صحة العطف على الضمير من غير تأكيد:
فلم يبق من حاجة لذكر نحن في الآيتين الأخيرتين، لأن الضمير المنفصل إنما يجب الإتيان به لصحة العطف إذا لم يكن هناك استفهام ولا نفي مؤكد كما في آية النحل وهاتين الآيتين أي الآية المفسرة وآية الأنعام، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لقومك المقتفين آثار أولئك الكفرة والجاحدين المقلدين لهم بإنكار البعث «إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» ٤٩ من جميع الخلق طائعهم وعاصيهم وعزة الله وجلاله وعظمته ونواله «لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» ٥٠ عند الله وواقفون بين يديه للحساب والجزاء
«ثُمَّ» يقال لهم من قبل الملائكة الموكلين بتبليغهم وسؤالهم من قبل الله «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ» عن طرق الهدى «الْمُكَذِّبُونَ» ٥١ بهذا اليوم «لَآكِلُونَ» في جهنم زيادة على تعذيبكم فيها «مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» ٥٢ شديد المرارة وهو نبت فيها أشبه بالحنظل في أرض الدنيا، «فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ» ٥٣ رغما عنكم لأن ملائكة العذاب يقسرونهم على أكله والشرب من الحميم أيضا، ليزيدوا في تعذيبهم كما تعلف الدواب المربوطة قسرا من قبل أهل الدنيا «فَشارِبُونَ عَلَيْهِ» عند شدة عطشكم «مِنَ الْحَمِيمِ ٥٤ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» ٥٥ الإبل المصابة في داء الهيام فإنها لفرط ظمئها لا تزال تشرب حتى تهلك، لأنها لا تروى قال الشاعر:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد | صداها ولا يقضي عليها هيامها |
وكنا إذا الجبار في الجيش ضافنا | جعلنا القنا والمرهفات له نزلا |
«عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ»
٦١ من الصور خلقا جديدا لا يشبه خلقكم الذي أنتم عليه، مما لم يكن في حسبانكم «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ» أيها الناس «النَّشْأَةَ الْأُولى» وكيفيتها من العدم لا من شيء سابق ولا مثال متقدم «فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ» ٦٢ بأني قادر على النشأة الثانية لأنها على مثال سابق، ومن كان قادرا على الإنشاء من لا شيء فهو أقدر على إعادة ما أنشأه بعد هلاكه، والبون شاسع بين الوجود والعدم «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ» ٦٣ في الأرض وتبذرون فيها من أنواع البذور «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ» فتنبتونه وتنشئونه وتصيرونه زرعا قائما على سوقه، وتجعلون فيه الحب «أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» ٦٤ الفاعلون لذلك كله وانكم لم ولن تفعلوا شيئا غير أقدارنا لكم على طرح الحب في الأرض، فإذا شئنا أنبتناه وإذا شئنا لم ننبته، وأنا «لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً» هشيما مكسرا تبنا ناعما لا قمح فيه عفوا بلا سبب أو نسلط عليه شيئا من الآفات الأرضية كالسوس والجراد والسمائية كالحر والبرد، أو نغرقه بالماء، أو نحرقه بصاعقة فنتلفه بما نشاء «فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ» ٦٥ تتعجبون فيما نزل فيه وتندمون على تعبكم عليه وانفاقكم المال لأجله، وتتلاومون على زرعه أو التقصير في مراعاته.
وأصل التفكه التنقل بصنوف الفواكه، ثم استعبر للننقل بالحديث، وكني فيه هنا عن التعجب والندم والتلاوم، أو عن اتلافه وحرمانكم منه، هذا وإذا أريد المعنى الظاهر من تفكهون فيكون ويجعلكم تقتصرون على أكل الفواكه فقط وتعدمون لذة القمح الذي لا يغني عنه شيء بحيث لا تعافه النفس مهما أدمن عليه بخلاف غيره من الأطعمة، وعند ما يجعله الله كذلك تقولون «إِنَّا لَمُغْرَمُونَ» ٦٦ ذهب مالنا بغير عوض وتعبنا بغير أجر وأملنا دون حظوة وتقولون «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» ٦٧ من ربح زرعنا الذي كنا نأمله لا حظ لنا فيه «أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ» ٦٨ منه أنتم وأنعامكم ودوابكم وتغتسلون منه وتغسلون ثيابكم وأوانيكم «أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ» السحب واحده مزنة قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها | ولا أرض أبقلت ابقالها |
ربت وربا في حجرها ابن مدينة | تراه على مسحاته يتركل |
تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة. ثم قرأ هذه الآية «وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» ٩٠ السالف ذكرهم أيضا ونعتهم
«فَسَلامٌ لَكَ» يا صاحب اليمين «مِنْ» اخوانك الكرام «أَصْحابِ الْيَمِينِ» ٩١ وسلام لك يا أكرم الرسل بهم لا تخف عليهم فهم في أمن من العذاب فلا تهتم بشأنهم وستراهم على ما تحب من السلامة، وانهم يسلمون عليك في دار فضلك «وَأَمَّا إِنْ كانَ» ذلك الميت والعياذ بالله «مِنَ» أصحاب الشمال «الْمُكَذِّبِينَ» الجاحدين رسالتك وكتابك وربك «الضَّالِّينَ» ٩٢ عن هداك المائلين عن رشدك يا سيد الرسل المنحرفين عن الصواب «فَنُزُلٌ» لهم مهيء في جهنم «مِنْ حَمِيمٍ ٩٣ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» ٩٤ يحرقون فيها، مرّ تفسير مثله «إِنَّ هذا» الذي ذكر مما قصه الله عمن حضره الموت وما قبله «لَهُوَ» وعزّتي وجلالي «حَقُّ الْيَقِينِ» ٩٥ الثابت الذي لا شك فيه وهو العلم المتيقن عين اليقين ونفسه.
مطلب الفرق بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين:
ولأهل المعرفة في عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين فقط عبارات شتى، فاليقين عندهم رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء بربه علما وشهودا وحالا لا علما فقط، فإذا كان علما فقط فهو علم اليقين، فعلم كل عاقل بالموت علم اليقين، فإذا عاين الملائكة فهو علم اليقين، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين، والإيقان هو العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال الله موقن «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» ٩٦ إن كنت موقنا عازما وتقدم تفسير مثله وكرر تأكيدا قال علي الجهني لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال ﷺ اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال اجعلوها في سجودكم أخرجه أبو داود- وأخرج الترمذي عن حذيفة أن النبي ﷺ كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى، وما أتى على آية رحمة إلّا وقف وسأل الله، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ.
قال الترمذي حديث صحيح. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
فقال ما تشتهي؟ قال رحمة ربي، قال أفلا تدعو لك الطبيب؟ قال الطبيب أمرضني، قال أفلا نأمر بعطائك؟ قال لا حاجة لي فيه، قال ندفعه إلى بناتك؟ قال لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا- راجع أول هذه السورة تجد ما يتعلق بهذا البحث، هذا وقد ختمت سورة الحافة الآتية في ج ٢، بمثل ما ختمت به هذه السورة فقط. والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
سورة الواقعة
سورة (الواقعة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (طه)، وقد جاءت بتذكيرِ الناس بوقوع يوم القيامة؛ للدَّلالة على عظمة الله عز وجل، وترهيبًا لهم من مخالفة أوامره، ودعوةً لهم إلى اتباع الدِّين الحق وتركِ الباطل، وخُتمت السورة الكريمة بتعظيمِ القرآن، وصدقِ أخباره وما جاء به، وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في صلاة الفجر.
ترتيبها المصحفي
56نوعها
مكيةألفاظها
380ترتيب نزولها
46العد المدني الأول
99العد المدني الأخير
99العد البصري
97العد الكوفي
96العد الشامي
99* قوله تعالى: {فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ اْلنُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرْءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكْنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا اْلْمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٨٠ أَفَبِهَٰذَا اْلْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ٨١ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «مُطِرَ الناسُ على عهدِ النبيِّ ﷺ، فقال النبيُّ ﷺ: «أصبَحَ مِن الناسِ شاكرٌ، ومنهم كافرٌ، قالوا: هذه رحمةُ اللهِ، وقال بعضُهم: لقد صدَقَ نَوْءُ كذا وكذا»، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ: {فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ اْلنُّجُومِ} [الواقعة: 75]، حتى بلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]». أخرجه مسلم (٧٣).
* سورة (الواقعة):
سُمِّيت هذه السورة بـ(الواقعة)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظ، ولتسميةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها بذلك:
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: «سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: ما شيَّبَكَ؟ قال: «سورةُ هودٍ، والواقعةِ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}»». أخرجه الترمذي (٣٢٩٧).
و(الواقعةُ): اسمٌ من أسماءِ يوم القيامة.
* سورة (الواقعة) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: «سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: ما شيَّبَكَ؟ قال: «سورةُ هودٍ، والواقعةِ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}»». أخرجه الترمذي (٣٢٩٧).
* أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الواقعة) في صلاة الفجر:
عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي الصَّلواتِ كنَحْوٍ مِن صلاتِكم التي تُصَلُّون اليومَ، ولكنَّه كان يُخفِّفُ، كانت صَلاتُه أخَفَّ مِن صَلاتِكم، وكان يَقرأُ في الفجرِ الواقعةَ، ونحوَها مِن السُّوَرِ». أخرجه أحمد (٢٠٩٩٥).
1. تحقيق القيامة (١-٥٦).
2. دلائلُ البعث والجزاء (٥٧-٧٤).
3. تعظيم القرآن، وصدقُ أخباره (٧٥-٩٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /598).
مقصدُ سورة (الواقعة) هو التذكيرُ بوقوع يوم القيامة وهَوْلِه، ووصفُ ما يحدُثُ به؛ لتخويف الناس وترهيبهم من معصية الله عز وجل ومخالفة أمره، وفي ذلك دعوةٌ لهم للرجوع إلى الحق، والاستجابة لأمر الله.
ويُبيِّن ابن عاشور محورَها فيقول: «هو التذكيرُ بيوم القيامة، وتحقيق وقوعه.
ووصفُ ما يَعرِض لهذا العالَمِ الأرضي عند ساعة القيامة.
ثم صفة أهل الجنة وبعض نعيمهم.
وصفة أهل النار وما هم فيه من العذاب، وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث.
وإثبات الحشر والجزاء.
والاستدلال على إمكان الخَلْق الثاني بما أبدعه الله من الموجودات بعد أن لم تكن.
والاستدلال بدلائل قدرة الله تعالى.
والاستدلال بنزعِ الله الأرواحَ من الأجساد والناس كارهون لا يستطيع أحدٌ مَنْعَها من الخروج، على أن الذي قدَرَ على نزعها بدون مُدافعٍ قادرٌ على إرجاعها متى أراد على أن يُمِيتَهم.
وتأكيد أن القرآن منزلٌ من عند الله، وأنه نعمةٌ أنعم الله بها عليهم فلم يشكروها، وكذَّبوا بما فيه». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (27 /280).