تفسير سورة الواقعة

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني.
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة الواقعة
مكية، وهي سبع وتسعون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) أي: القيامة. عبّر عنها بالواقعة، دلالة على تحقق وقوعها لا محالة كقولك: حدثت الحادثة. و " إذا " ظرف لليس، أو نصب بـ " اذكر "، أو لمقدر أي: إذا وقعت يكون كيت وكيت وهذا أجزل.
(لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) نفس تكذِّب في الإخبار عن عدم وقوعها كاليوم كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)، أو من كذبته نفسه عند الخطب إذا شجعته على أمر لا طاقة له به. كأنه قال: هذا الخطب ليس من الخطوب التي تقدر نفس على الكذب مع صاحبها في احتماله. وعلى الوجهين اللام للوقت. مثلها في (قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، أو هو
كلام على طريقة التمثيل أي: بعد وقوعها ليس نفس تكذب بلسان الحال أو المقال ويقول لها لم تكوني، أو مصدر بمعنى الكذب كما يقال: حمل عليه حملة صادقة. أي: ذات صدق.
(خَافِضَةٌ... (٣) لأقوام (رَافِعَةٌ) لِأُخَرَ. لقوم ويل ولقوم نيل.
(إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) حركت تحريكاً عنيفاً كقوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ).
(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) سيرت. وفي الحديث: " إذا فُتحت العراقُ يأتي قوم يبسون بأهليهمْ "، أو فتتتْ، لقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً... (٦) غباراً (مُنْبَثًّا) منتشراً.
(وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا... (٧) أصنافاً (ثَلَاثَةً).
(فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) أي: أصحاب الجنة هل تدري ما صفتهم، وما هم فيه؟. أقام المظهر مقام المضمر؛ لما فيه من الفخامة. والميمنة: الجهة التي تسامن أقوى الجانين، من اليمن وهو البركة. والعرب تتايمن باليمين، وتتشاءم بالشمال ويسمونها الشُّؤْمى، أو لأن أهل السعادة يؤخذ بهم ذات اليمن، وأهل الشقاوة ذات الشمال.
(وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) أي: ما هم، وما صفتهم؟. سيق للتعجب.
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) مبتدأ وخبر أي: السابقون إلى الإيمان هم الذين بلغك خبرهم في علوّ الرتية ورفعة الشأن كقوله: " أنا أبو النجم وشعري شعري. وتخصيصهم بالأنبياء مما لا وجه له.
(أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) أي: للوصوفوف بالسبق هم الذين قربت درجاتهم من اللَّه، وأعلت منازلهم في الجنة. استئناف لبيان ذلك الإبهام.
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) جماعة كثيرون، من الثَّل وهو الصب والهدم. خبر محذوف أي: هم.
(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) وفي تفسير الأولين وجهان. قيل: السابقون على هذه الأمة من لدن آدم إلى محمد عليه السلام فالسابقون من أولئك أكثر من سابقي هذه الأمة.
ورووا هذا عن الحسن، وهذا قول لا سند له. بل السابقون واللاحقون من هذه الأمة، وذلك لما صَح " أن أَهلَ الْجَنَّهِّ مِائَة وعِشْرونَ صَفًّا ثمَانُونَ مِنْ هَذ الأمِّةِ وَأَرْبَعونَ مِنْ سَائِرِ الأمَمِ ". وقد نطق القرآن بأن هذه الأمة خير الأمم. وروى البخاري ومسلم أنه - ﷺ - قال: " نَحْنُ أَقَل عَمَلًا وَأَكْثَر أَجْرًا ". فكيف يكون السابقون من أربعين أكثر من السابقين من ثمانين، مع أن هؤلاء أكثر أجراً وخيراً من أولئك بنص القرآن والحديث؟! بل الأولون هم أوائل هذه الأمة، الذين أشار إليهم بأنهم خير القرون. (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ).
(عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) منسوجة بالدر والياقوت داخلاً بعضها في بعض كحلق الدرع، وقيل. متدانية، أدنى بعضها من بعض.
(مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) حالان من الضمير في (عَلَى سُرُرٍ).
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) مبقون على تلك الهيئة أبدا، لا يعتريهم تغير وتبدّل من كبر سن، أو في آذانهم الخلدة وهي القُرْطة. وعن الحسن: " هم أولاد الكفار ". والحق أنهم أهل الجنة، وقيل: هم الأولاد والأطفال الذين ماتوا من غير عمل.
(بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ... (١٨) متعلق بـ يطوف، والكوب: ما ليس له عروة ولا خرطوم، والإبريق عكس ذلك، وهذا التنوع على طريقة أهل الشرب في الدنيا. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) هو القدح الذي يشرب به، والمعين: الجاري أي: ليس مثل خمر الدنيا توخمت من مجاورة الدِّنِّ.
(لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا... (١٩) لا يحصل لهم بشربها صداع (وَلَا يُنْزِفُونَ) يسكرون يقال: أنزف سَكِرَ. قال:
لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا
أو لا ينفد شرابهم، من أنزف: نفد والمعنى: لا تنفد عقولهم ولا شرابهم. وقرأ غير الكوفيين بفتح الزاي على بناء المفعول، من أنزفه؛ أسكره. وهذا أوفق بقوله (لَا يُصَدَّعُونَ).
(وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) يرتضون (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) يستلذون.
(وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) بيض نجل العيون. عطف على ولدان معنىً. أي: لهم ولدان وعندهم حور، أو على فاعل متكئين؛ لوجود الفاصل كقوله (مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا). وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفاً على جنات أي: في جنات ومعاشرة حور عين،
وعن الزجاج عطف على بـ " أكواب " أي: يطوف عليهم الولدان بالحور كما هو دأب الملوك يأتي الخادم بحظاياهم إلى أماكن أنسهم، وعن الفراء الجر على الجوار.
(كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) في الصدف في الصفاء والطراوة، أو المخزون لشرفه وبهائه.
(جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) مفعول له. أي: هذا الذي أتحفناهم به جزاء أعمالهم.
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا... (٢٥) كلاماً باطلا، (وَلَا تَأْثِيمًا) ولا شيئاً لو كان في الدنيا أوجب إثماً كما يقع من أَهل السُّكْر في مجالسهم.
(إِلَّا قِيلًا... (٢٦) قولا (سَلَامًا) سالماً عن ذلك (سَلَامًا) بدل منه، أو إلا سلاماً إثر سلام. (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ).
(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) أي: لهم شَأن وأي شأن، ثم شرع يفصله.
(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) عن الشوك كأنه خضد، وقيل: هو موقر الجمل. من خضده: إذا ثناه وأماله.
(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) نُضِدَ بالثمر من أسفله إلى أعلاه وهو شجر الموز أو أمُّ غيلان، وقيل: شجر في البادية. والظاهر أنه إنما خُصَّا بالذكر؛ لكثرتهما في أرض العرب وليس لهما ثمر فاخر. فأشار إلى أنهما في الجنة ليسا على ما كانا عليه، وقيل؛ إنما ذكر المعنى، التظليل دون الثمر وليس بوجه؛ لذكر الظل بعده، ولكون الوصف بالخضد والنضد غير ملائم، وقيل. هذا كلام مع أهل الوبر وأم غيلان: له رائحة طيبة، وله شوك، فأشار إلى أن ما في الجنة لا شوك له مع كونه موقراً بالثمر.
(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) لا فُرَج فيه ولا يتقلص، كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) على الدوام كيف شاءوا (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) الأنواع (لَا مَقْطُوعَةٍ... (٣٣) في وقت كفاكهة الدنيا (وَلَا مَمْنُوعَةٍ) من الوصول إليها.
(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) على السرر، أو نضد بعضها فوق بعض فارتفعت. روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - ﷺ - قال في تفسير (فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) " ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسمِائَهِّ عَام ". أو هو كناية عن الحور.
(إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) أي: خلقناهن خلقاً جديداً، إما ابتداء وهن الحور أو نساء الدنيا. والضمير للفرش إن كان كناية عن النساء، أو لما دل عليه ذكر الفُرُش وإن لم يسبق له ذكر. وعن أم سلمة رضي اللَّه عنها سألت رسول اللَّه - ﷺ - عن قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ) قال: هُنَّ اللَّاتِي كُنَّ في الدّنْيَا شُمْطًا رُمْصًا، عَجَائِزَ.
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا... (٣٧) جمع عَرُوب. متحببات إلى أزواجهن. قرأ أبو بكر بسكون الراء مخففاً. (أَتْرَابًا) لدات، هن والأزواج [في سن واحد وثلاثين] (١) وطول آدم ستين ذراعاً في عرض سبعة أذرع.
(١) المشهور ثلاث وثلاثون. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
(لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) متعلق بـ (أَنْشَأنَا)، أو صفة أخرى لـ (أَبْكَارًا).
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) خبر مبتدأ محذوف.
(وَأَصْحَابُ الشِمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِمَالِ (٤١) في سوء الحال.
(فِي سَمُومٍ... (٤٢) في نار تتقد في المسام. (وَحَمِيمٍ) وماء تناهت في الحرارة. (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) دخان أسود، من الحمة وهي السواد.
(لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) ليس فيه برد وروح كسائر الظلال. أثبت لهم الظل، ثم نفى برده ورَوْحه؛ تهكمًا وتعريضاً بأن ذلك إنما يستحقه أضدادهم.
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) متنعمين، أذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا. من أترفته النعمة: أطغته.
(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) الكفر باللَّه
(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) منكرين ذلك مكذبين للرسل، نافين لقدرة المقتدر.
(أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) مع تقادم العهد هذا أشد بعداً. والعطف على المستكن في مبعوثون؛ لوجود الفاصل، أو على محل اسم إن. وقرأ ابن عامر وقالون بسكون الواو، ويتعين العطف على المحل.
(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) الميقات: ما يوقت به الشيء، ومنه ميقات الإحرام أي: إلى وقت معين من يوم معلوم. الإضافة بمعنى " من ".
(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) المكذبون بالبعث. قدم الضلالة؛ لأنها منشأ الكذب.
(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) " من " الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيان.
(فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) لغلبة الجوع.
(فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) الماء المتناهي في الحرارة. وتأنيث الضمير أولاً ثم تذكيره ثانياً باعتبار اللفظ والمعنى، وحمل التذكير على الأكل يفك الضمائر.
(فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) جمع هيماء: وهي التي لا تروى من العطش لداء بها.
قال ذو الرمة.
أو جمع هَيام: وهو الرمل الذي لا يمسك الماء. والعطف باعتبار الصفة؛ لأن شربهم الحميمم لدفع العطش بديع، كما أن شربهم كشرب الهيم عجيب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي بفتح الشين، وهما لغتان، والضم أشهر.
(هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) هو ما يعد للضيف النازل، وإذا كان هذا النزل فما بعده أطَمّ.
(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ... (٥٧) لا تشكون في ذلك. (فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) بالإعادة فإنها أوضح من البدء.
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) تلقون في الأرحام من النطف (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) هب أنكم لا تعلمون خلق أنفسكم ألستم شاهدون ما تولد منكم؟!
(نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ... (٦٠) قضينا بذلك، وسويناكم فيه مع الاختلاف في الأعمار كالأرزاق. (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ... (٦١) يقال: سبقت على كذا غلبت عليه. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) ما هو وما عهدتم مثله، قدرتنا على الأمرين سواء.
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) فإنها في غاية الظهور لا تحتاج إلى ترتيب مقدمات.
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) تشقون الأرض وتلقون فيها من البذر.
(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ... (٦٤) تنبتونه وتوصلونه إلى الكمال، (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) الفاعلون لذلك؟!.
(لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا... (٦٥) متكسراً (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قضيتم نهاركم تتعجبون أو تندمون على تعبكم فيه، أو على المعاصي التي تسببت له. وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " لا يقُلْ أحَدُكمْ زرَعْتُ وليقلْ حرَثتُ".
(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) لذهاب رزقنا، من الغرام، أو ملزمون بغرامة ما أنفقنا فيه، من الغرامة. وقرأ أبو بكر بالاستفهام تعجباً، والإخبار أبلغ.
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) مصابون بالحرمان والشقاء.
(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) عذباً فراتاً.
(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ... (٦٩) جمع مُزْنَة: السحاب الأبيض فإن ماءه أعذب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا... (٧٠) مُرًّا زُعاَقاً لا يسوغ. (فَلَوْلَا
تَشْكُرُونَ) هذه النعمة. وإنما حذف اللام؛ لتقدمها قريباً مع اشتهار لونها، ولأن المشروب تبع للمأكول، ليدل على أن فقده أهم، والاهتمام به أتم.
(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) تقدحون بالزند والزندة.
(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا... (٧٢) المودعة فيها النار؟ (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً... (٧٣) تدل على قدرتنا على الإعادة، وأنموذجاً من نار الآخرة (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) النازلين بالقواء ممدود ومقصور، من القيِّ: وهو المكان القفر، وخص بالذكر؛ لفرط الاحتياج فيه، أو من القوى: وهو الخلو فيعم المسافر والمقيم.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) نزهه عما لا يليق بجلاله بذكر اسمه العظيم شكراً لعظيم آلائه، أو اذكره باسمه العظيم تعجباً ممن يرى هذه النعم ثم يكفر. الباء للاستعانة أو للملابسة.
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) بِمَساقطها، أو في ذلك الوقت يزول سلطانها فيكون أدل على وجود الصانع. وعن الحسن: انتشارها يوم القيامة، وقيل منازلها، وقيل: أوقات نزول القرآن، و " لا " مزيدة. وقرأ حمزة والكسائي " بموقع النجوم " لإرادة الجنس.
(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) اعتراض فيه اعتراض لما في المقسم به من كمال القدرة، أو نهاية الرأفة.
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) شريف، نيط به أمر المعاش والمعاد، أو كريم عند اللَّه، وإنما بالغ في القسم وجعل القرآن مقسماً به؛ لكون السورة مصدرة بأمر المعاد، وقد استوفى فيها أدلة الآفاق والأنفس على وجه تحار فيه الألباب، ولا يبقى لذي العينين ارتياب.
(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) مصون عن يد الأغيار، ولم يقع فيه شائبة تبديل.
(لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) من دنس الآثام، وهم السفرة الكرام البررة، أو المطهرون من الأحداث. رواه مالك وأبو داود، فالنفي بمعنى النهي.
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) مصدر نعت به صفة أخرى للقرآن.
(أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) متساهلون، من الدهن. فإن المتهاون يلين جانبه.
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ... (٨٢) شكر ما رزقتم من فهمه، أو رزقكم الذي بيّن في السورة من نعم الدارين (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) به. وقيل: الرزق: المطر، وتكذيبهم به نسبته إلى الأنواء.
(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) أي: النفس، والخطاب للذى حول المحتضر (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) نظر المحتاج العاجز. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥) ذلك.
(فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) مربوبين مملوكين، من دان السلطان رعيته: ساسها.
(تَرْجِعُونَهَا... (٨٧) النفس إلى البدن (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في أن لا صانع، وأنكم تتركون سدى. وهؤلاء وإن لم يصرحوا بنفي الصانع إلا أن تكذيبهم الرسل، وإنكار البعث والجزاء مُؤدٍّ إليه، ثم استطرد ذكر الأزواج الثلاثة التي صدر بها السورة؛ زيادة في الترغيب والترهيب، وليَتَجاوب طرفاها رداً لعَجُز على الصدر قال: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) راحة، ورزق، ومقام كريم. قدم الأهم فالأهم.
(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) أي: من إخوانك المؤمنين. " من " ابتدائية. وقيل: مُسَلَّم أنك منْهم.
(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) أي: من أصحاب الشمال. عبر عنهم بالوصف؛ دلالة على أن ذلك الوصف أورثهم الشقاء.
(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) في ذكر النزل تهكم بهم.
(إِنَّ هَذَا... (٩٥) ما ذكر في السورة، أو في شأن الأزواج (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) لا يقين فوقه. كقولك آمين حق آمين.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦) أي: بعدما بلغت هذا البلاغ المبين نزه ربك عما لا يليق بجلاله مستعيناً باسمه الأعظم (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
* * *
تمت سورة الواقعة، والحمد لمن رحمته واسعة، والصلاة على من شفاعته شائعة، وعلى آله وصحبه دائمة متتابعة.
* * *
سورة الواقعة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الواقعة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (طه)، وقد جاءت بتذكيرِ الناس بوقوع يوم القيامة؛ للدَّلالة على عظمة الله عز وجل، وترهيبًا لهم من مخالفة أوامره، ودعوةً لهم إلى اتباع الدِّين الحق وتركِ الباطل، وخُتمت السورة الكريمة بتعظيمِ القرآن، وصدقِ أخباره وما جاء به، وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في صلاة الفجر.

ترتيبها المصحفي
56
نوعها
مكية
ألفاظها
380
ترتيب نزولها
46
العد المدني الأول
99
العد المدني الأخير
99
العد البصري
97
العد الكوفي
96
العد الشامي
99

* قوله تعالى: {فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ اْلنُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرْءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكْنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا اْلْمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٨٠ أَفَبِهَٰذَا اْلْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ٨١ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «مُطِرَ الناسُ على عهدِ النبيِّ ﷺ، فقال النبيُّ ﷺ: «أصبَحَ مِن الناسِ شاكرٌ، ومنهم كافرٌ، قالوا: هذه رحمةُ اللهِ، وقال بعضُهم: لقد صدَقَ نَوْءُ كذا وكذا»، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ: {فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ اْلنُّجُومِ} [الواقعة: 75]، حتى بلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]». أخرجه مسلم (٧٣).

* سورة (الواقعة):

سُمِّيت هذه السورة بـ(الواقعة)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظ، ولتسميةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها بذلك:

عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: «سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: ما شيَّبَكَ؟ قال: «سورةُ هودٍ، والواقعةِ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}»». أخرجه الترمذي (٣٢٩٧).

و(الواقعةُ): اسمٌ من أسماءِ يوم القيامة.

* سورة (الواقعة) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: «سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: ما شيَّبَكَ؟ قال: «سورةُ هودٍ، والواقعةِ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}»». أخرجه الترمذي (٣٢٩٧).

* أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الواقعة) في صلاة الفجر:

عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي الصَّلواتِ كنَحْوٍ مِن صلاتِكم التي تُصَلُّون اليومَ، ولكنَّه كان يُخفِّفُ، كانت صَلاتُه أخَفَّ مِن صَلاتِكم، وكان يَقرأُ في الفجرِ الواقعةَ، ونحوَها مِن السُّوَرِ». أخرجه أحمد (٢٠٩٩٥).

1. تحقيق القيامة (١-٥٦).

2. دلائلُ البعث والجزاء (٥٧-٧٤).

3. تعظيم القرآن، وصدقُ أخباره (٧٥-٩٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /598).

مقصدُ سورة (الواقعة) هو التذكيرُ بوقوع يوم القيامة وهَوْلِه، ووصفُ ما يحدُثُ به؛ لتخويف الناس وترهيبهم من معصية الله عز وجل ومخالفة أمره، وفي ذلك دعوةٌ لهم للرجوع إلى الحق، والاستجابة لأمر الله.

ويُبيِّن ابن عاشور محورَها فيقول: «هو التذكيرُ بيوم القيامة، وتحقيق وقوعه.

ووصفُ ما يَعرِض لهذا العالَمِ الأرضي عند ساعة القيامة.

ثم صفة أهل الجنة وبعض نعيمهم.

وصفة أهل النار وما هم فيه من العذاب، وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث.

وإثبات الحشر والجزاء.

والاستدلال على إمكان الخَلْق الثاني بما أبدعه الله من الموجودات بعد أن لم تكن.

والاستدلال بدلائل قدرة الله تعالى.

والاستدلال بنزعِ الله الأرواحَ من الأجساد والناس كارهون لا يستطيع أحدٌ مَنْعَها من الخروج، على أن الذي قدَرَ على نزعها بدون مُدافعٍ قادرٌ على إرجاعها متى أراد على أن يُمِيتَهم.

وتأكيد أن القرآن منزلٌ من عند الله، وأنه نعمةٌ أنعم الله بها عليهم فلم يشكروها، وكذَّبوا بما فيه». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (27 /280).

فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها