مقصودها شرح٢ أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين٣ من المصارحين والمنافقين٤ من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال [ و-٥ ] دل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به ( بسم الله ) الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ( الرحمن ) الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال ( الرحيم ) الذي أقبل٦ بأهل حزبه إلى٧ أهل قربه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.
٢ - من ظ، وفي الأصل: سر..
٣ - من ظ، وفي الأصل: المنافقين..
٤ - من ظ، وفي الأصل: المشاققين..
٥ - زيد من ظ..
٦ - من ظ، وفي الأصل: عم..
٧ - من ظ، وفي الأصل: و..
ﰡ
ولما كان هذا معناه الساعة التي أبرم القضاء بأنه لا بد من كونها، عبر عنه بانياً على مبتدأ محذوف فقال: ﴿ليس لوقعتها﴾ أي تحقق وجودها ﴿كاذبة *﴾ أي كذب فهي مصدر عبر عنه باسم الفاعل للمبالغة بأنه ليس في أحوالها شيء يمكن أن ينسب إليه كذب ولا يمشي فيها كذب أصلاً ولا يقر عليه، بل كل ما أخبر بمجيئه جاء من غير أن يرده شيء، وكل ما أخبر بنفيه انتفى فلا يأتي به شيء، وقرر عظمتها وحقق بعث الأمور فيها بقوله مخبراً عن مبتدأ محذوف: ﴿خافضة﴾ أي هي لمن يشاء الله خفضه من عظماء أهل النار وغيرهم
ولما ذكر غاية مبادئها المرجفة المرهبة، ذكر مبادئ غاياتها فقال: ﴿وكنتم﴾ أي قسمتم بما كان في جبلاتكم وطباعكم في الدنيا ﴿أزواجاً ثلاثة *﴾ أي أصنافاً لا تكمل حكمة صنف منها إلا بكونها قسمين: أعلى ودونه، ليكون ذلك أدل على تمام القدرة وهم أصحاب الميمنة المنقسمين إلى سابقين وهم المقربون، وإلى لاحقين وهم
ولما قسمهم إلى ثلاثة أقسام وفرع تقسيمهم، ذكر أحوالهم وابتدأ ذلك بالإعلام بأنه ليس الخبر كالخبر كما أنه ليس العين كالأثر فقال: ﴿فأصحاب الميمنة *﴾ أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها، ثم فخم أمرهم بالتعجيب من حالهم بقوله منبهاً على أنهم أهل لأن يسأل عنهم فيما يفهمه اليمين من الخير والبركة فكيف إذا عبر عنها بصيغة مبالغة فقال: ﴿ما﴾ وهو مبتدأ ثان ﴿أصحاب الميمنة *﴾ أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها، والجملة خبر عن الأولى، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم الإعذار في السورتين المتقدمتين والتقرير على عظيم البراهين، وأعلم في آخر سورة القمر أن كل واقع في العالم فبقضائه سبحانه وقدره ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ [
ولما ذكر الناجين بقسميهم، أتبعهم أضدادهم فقال: ﴿وأصحاب المشأمة﴾ أي جهة الشؤم وموضعها وأعمالها، ثم عظم ذنبهم فقال: ﴿ما أصحاب المشأمة﴾ أي لأنهم أهل لأن يسأل عما أصابهم من الشؤم والشر والسوء بعظيم قدرته التي ساقتهم إلى ما وصلوا إليه من الجزاء الذي لا يفعله بنفسه عاقل بل ولا بهيمة مع ما ركب فيهم من العقول الصحيحة والأفكار العظيمة وصان الأولين عن خذلان هؤلاء فأوصلهم إلى النعيم المقيم.
ولما ذكر القسمين، وكان كل منهما قسمين، ذكر أعلى أهل
ولما بين علو شأنهم ونسب السبق إليهم، ترجمه نازعاً للفعل منهم بقوله: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة جداً من الذين هم أصحاب الميمنة ﴿المقربون *﴾ أي الذين اصطفاهم الله تعالى للسبق فأرادهم لقربه أو أنعم عليهم بقربه ولولا فعله في تقريبهم لم يكونوا سابقين، قال الرازي في اللوامع: المقربون تخلصوا من نفوسهم فأعمالهم كلها لله ديناً ودنيا من حق الله وحق الناس، وكلاهما عندهم حق الله، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد، وهم صنفان فصنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبتهم فالحق يستعملهم، وصنف آخر قد أرخى من عنانه، فالأمر عليه أسهل لأنه قد جاور بقلبه هذه الحطة ومحله أعلى فهو أمين الله في أرضه، فيكون الأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز - انتهى. ثم
ولما ذكر السابقين فصلهم فقال: ﴿ثلة﴾ أي جماعة كثيرة حسنة، وقال البغوي: والثلة جماعة غير محصورة العدد، ﴿من الأولين *﴾ وهم الأنبياء الماضون عليهم الصلاة والسلام، ومن آمن بهم من غير واسطة رضي الله عنهم ﴿وقليل من الآخرين *﴾ وهم من آمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - كذلك بغير واسطة رضي الله عنهم، فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مائة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهم من آمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين وهم ستمائة ألف فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من التابعين والصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم الصلاة والسلام. المجددين من بني إسرائيل وغيرهم، وقيل «الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة»، رواه الطبراني وابن عدي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك ورواه إسحاق بن راهويه مسدد بن مسرهد وأبو داود الطيالسي وإبراهيم الحربي والطبراني من رواية علي بن زيد
«بدأ الإسلام غريباً وسيكون غريباً فطوبى للغرباء» ويجوز أن يقدر أيضاً: وثلة - أي جماعة كثيرة هلكى - من الأولين، وهم المعاندون من الأمم الماضين، وقليل من الآخرين - وهم المعاندون من هذه الأمة.
ولما ذكر السرر وبين عظمتها، ذكر غايتها فقال: ﴿متكئين﴾
ولما كان المتكىء قد يصعب عليه القيام لحاجته قال: ﴿يطوف عليهم﴾ أي لكفاية كل ما يحتاجون إليه ﴿ولدان﴾ على أحسن صورة وزي وهيئة ﴿مخلدون *﴾ قد حكم ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة، قال البغوي: تقول العرب لمن كبر ولمن شمط: إنه مخلد، قال: قال الحسن: هم أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات يثابون عليها ولا سيئات يعاقبون عليها لأن الجنة لا ولادة فيها، فهم خدام أهل الجنة.
ولما كان مدحهم هذا في غاية الإبلاغ مع الإيجاز، وكان فيه - إلى تبليغ ما لهم - تحريك إلى مثل أعمالهم، وكان الأكل الذي هو من أعظم المآرب مشاراً إليه بالمدح العظيم الذي من جملته الاستراحة على الأسرة التي علم أن من عادة الملوك أنهم لا يتسنمونها إلا بعد قضاء الوطر منه فلم يبق بعده إلا ما تدعو الحاجة إليه من المشارب وما يتبعها قال تعالى: ﴿بأكواب﴾ أي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم لا يعوق الشارب منها عائق عن الشرب من أي موضع أراد منها فلا يحتاج أن يحول الإناء إلى الحالة التي تناوله عنها ليشرب، ويمكن أن تكون
ولما كان الشراب عاماً بينه بقوله: ﴿من معين *﴾ أي خمر جارية صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها بل ينبع كما ينبع الماء. ولما أثبت نفعها وما يشوق إليها، نفى ما ينفر عنها فقال: ﴿لا يصدعون﴾ أي تصدعاً يوجب المجاوزة ﴿عنها﴾ أي بوجع في الرأس ولا تفرق لملالة ﴿ولا ينزفون *﴾ أي يذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي يصرع شرابهم، من نزفت البئر - إذا نزح ماؤها كله، ونزف فلان: ذهب عقله أو سكر، وبنى الفعلان لملجهول لأنه لم تدع حاجة إلى معرفة الفاعل، وقال الرازي في اللوامع: قال الصادق: لا تذهل عقولهم عن موارد الحقائق عليهم ولا يغيبون عن مجالس المشاهدة بحال.
ولما بدأ بالألذ الهاضم للأكل، تلاه بما يليه مما يدعو إليه الهضم تصريحاً به بعد التلويح فقال: ﴿وفاكهة مما يتخيرون *﴾ أي هو فيها بحيث لو كان فيها جيد وغيره واختاروا وبالغوا في التنقية لكان مما يقع التخير عليه، ولما ذكر ما جرت العادة بتناوله لمجرد اللذة، أتبعه ما العادة أنه لإقامة البينة وإن كان هناك لمجرد اللذة أيضاً فقال:
ولما كان لم يكن بعد الأكل والشرب أشهى من الجماع، قال عاطفاً على ﴿ولدان﴾ :﴿وحور العين *﴾ أي يطفن عليهم، وجره حمزة والكسائي عطفاً على ﴿سرر﴾ فإن النساء في معنى الاتكاء لأنهن يسمين فراشاً. ولما كان المثل في الأصل الشيء نفسه كما مضى في الشورى قال: ﴿كأمثال﴾ أي مثل أشخاص ﴿اللؤلؤ المكنون *﴾ أي المصون في الصدف عما قد يدنسه.
ولما أثبت لها الكمال وجعله لهم، نفى عنها النقص فقال: ﴿لا يسمعون﴾ أي على حال من الأحوال ﴿فيها لغواً﴾ أي شيئاً مما لا ينفع فإن أنكاً... بالسميع الحكيم ذلك، واللغو: الساقط ﴿ولا تأثيماً *﴾ أي ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الإثم، بل حركاتهم وسكناتهم كلها رضى الله، وما قطع قلوب السائرين إلى الله إلا هاتان الخصلتان بينا أحدهم
ولما كان الاستثناء، معيار العموم، ساق بصورة الاستثناء قوله: ﴿إلا قيلاً﴾ أي هو في غاية اللطافة والرقة بما دل عليه المبني على ما قبلها محاسن مع ما تدل عليه مادة قوله. ولما تشوف السامع إليه بالعبير بما ذكر، بينه بقوله: ﴿سلاماً﴾ ودل على دوامه بتكريره فقال: ﴿سلاماً *﴾ أي لا يخطر في النفس ولا يظهر في الحس منهم قول إلا دالاًّ على السلامة لأنه لا عطب فيها أصلاً، وساقه مساق الاستثناء المتصل دلالة على أنه إن كان فيها لغو فهو ذلك حسب، وهو ما يؤمنهم وينعمهم ويبشرهم مع أنه دال على حسن العشرة وجميل الصحبة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة.
ولما أتم سبحانه القسم الأول القلبي السوائي المولي من الثلاثة بقسميه، وذكر في جزائه مما لأصحاب المدن ما لا يمكنهم الوصول إليه، عطف عليه الثاني الذي هو دونه لذلك وهم والله أعلم الأبرار وهم أيضاً صنفان، وذكر في جزائهم من جنس ما لأهل البوادي أنهى ما يتصورونه ويتمنونه فقال: ﴿وأصحاب اليمين *﴾ ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم، والإشارة إلى أنهم أهل لأن يسأل عن حالهم فإنهم في غاية الإعجاب فقال: ﴿ما أصحاب اليمين﴾ ولما عبر عنهم بما
ولما ذكر ما يطلع في الجبال والأماكن المعطشة والرمال، أتبعه ما لا يطلع إلا على المياه دلالة على أن أماكنهم في غاية السهولة والري فقال: ﴿وطلح﴾ أي شجر موز أو نخل، وقال الحسن: شجر له ظل بارد طيب الرائحة وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام لها شوك، وقيل: هو أم غيلان، وله نور كثير، ويحكى عن أبي تراب النخشبي أنه كان سائراً مع قوم من الصوفية على قدم التوكل، فجاعوا أياماً فقال: أتريدون أن تأكلوا، قالوا: نعم، فضرب بيده على شجرة غيلان فإذا عليها عراجين موز، فأكلوا إلا شاباً منهم، فقال: لا آكل
ولما ذكر ما لا يكون إلا في البلاد الحارة قال: ﴿وظل ممدود *﴾ أي مستوعب للزمان والمكان فهو دائم الاستمداد كما بين الإسفار وطلوع الشمس لا فناء له ولا نهاية. ولما كان ما ذكر من الري لا يستلزم الجري قال: ﴿وماء مسكوب *﴾ أي جار في منازلهم من غير أخدود ولا يحتاجون فيه إلى جلب من الأماكن البعيدة، ولا الإدلاء في بئر كما لأهل البوادي.
ولما ذكر ما تقدم، عم بقوله: ﴿وفاكهة كثيرة *﴾ أي أجناسها وأنواعها وأشخاصها. ولما كانت لا تكون عندنا إلا في أوقات يسيرة، بين أن أمر الجنة على غير ذلك فقال: ﴿لا مقطوعة﴾ ولما كانت في الدنيا قد يعز التوصل إليها مع وجودها لشيء من الأشياء أقله صعود الشجرة أو التحجز بجدار أو غيره قال: ﴿ولا ممنوعة *﴾ ولما كان التفكه لا يكمل الالتذاذ به إلا مع الراحة قال: ﴿وفرش مرفوعة *﴾ أي هي رفيعة القدر وعالية بالفعل لكثرة الحشو ولتراكم بعضها على بعض
ولما كان للنفس أتم التفات إلى الاختصاص، وكان الأصل في الأنثى المنشأة أن تكون بكراً، نبه على أن المراد بكارة لا تزول إلا حال الوطىء ثم تعود، فكلما عاد إليها وجدها بكراً، فقال: ﴿فجعلناهن﴾ أي الفرش الثيبات وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء ﴿أبكاراً *﴾ أي
ولما كان مما جرت به العادة أن البكر تتضرر من الزوج لما يلحقها من الوجع بإزالة البكارة، دل على أنه لا نكد هناك أصلاً بوجع ولا غيره بقوله: ﴿عرباً﴾ جمع عروب، وهي الغنجة المتحببة إلى زوجها، قال الرازي في اللوامع: الفطنة بمراد الزوج كفطنة العرب. ولما كان الاتفاق في السن أدعى إلى المحبة ومزيد الألفة قال: ﴿أتراباً *﴾ أي على سن واحدة وقد واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن. قال الرازي في اللوامع: أخذ من لعب الصبيان بالتراب - انتهى، «وروى البغوي من طريق عبد بن حميد عن الحسن: قال أتت عجوز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال:» يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكي، قال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: إنا أنشأناهن، الآية «رواه الترمذي عنه في الشمائل هكذا مرسلاً، ورواه البيهقي في كتاب البعث عن عائشة رضي الله عنها والطبراني في الأوسط من وجه عنها، ومن وجه آخر عن أنس رضي الله عنه، قال شيخنا حافظ عصره ابن حجر: وكل طرقه ضعيفة، وروى البغوي أيضاً من طريق الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية
ولما كان هذا الوصف البديع مقتضياً لما يزدهي عنه النفس لأن يقال: لمن هؤلاء؟ وإن كان قد علم قبل ذلك، نبه عليه بقوله تعالى: ﴿لأصحاب اليمين *﴾ ويجوز أن يتعلق ب ﴿أتراباً﴾ نصاً على أنهن في أسنان أزواجهن.
ولما أنهى وصف ما فيه أهل هذا الصنف على أنهى ما يكون لأهل البادية بعد أن وصف ما للسابقين بأعلى ما يمكن أن يكون لأهل الحاضرة، وكان قد قدم المقايسة في السابقين بين الأولين والآخرين، فعل هنا كذلك فقال: ﴿ثلة من الأولين *﴾ أي من أصحاب اليمين ﴿وثلة﴾ أي منهم ﴿من الآخرين *﴾ فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة، والظاهر أن الآخرين أكثر، فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة، فإنهم عشرون ومائة صف، هذه الأمة منهم ثمانون صفاً».
ولما أتم وصف ما فيه الصنفان المحمودان، وبه تمت أقسام أصحاب الميمنة الأربعة الذين هم أصحاب القلب واليمين، أتبعه أضدادهم فقال: ﴿وأصحاب الشمال﴾ أي الجهة التي تتشاءم العرب بها وعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص، والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما
ولما أنتج هذا أنه على خلق اللئيم فهو موضع الحرارة والضيق والخسة والشدة، علله بقوله: ﴿إنهم﴾ أكده وإن كان فيهم أهل
ولما كان ذلك قد يكون من المعهود مما يغتفر بكونه صغيراً أو في وقت يسير قال: ﴿العظيم *﴾ دالاًّ على أنهم يستهينون العظائم من القبائح والفواحش.
ولما كانت أفهامهم واقفة مع المحسوسات لجمودهم. وكان البلى كلما كان أقوى كان ذلك البالي في زعمهم من البعث أبعد، قالوا مخرجين في جملة فعلية عطفاً على الواو من ﴿معبوثون﴾ من غير تأكيد بضمير الفصل بالاستفهام: ﴿أو آباؤنا﴾ أي يبعث آباؤنا أي يوجد بعثهم من حين، وزادوا الاستبعاد على ما أفهموا بقولهم: ﴿الأولون *﴾ أي الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم، فصاروا كلهم تراباً ولا سيما إن حملتهم السيول ففرقت ترابهم في كل أوب، وذهبت به في كل صوب، وسكن نافع وابن عامر الواو على أن العاطف ﴿أو﴾ ويجوز أن
ولما كانوا في غاية الجلافة، رد إنكارهم بإثبات ما نفوه، وزادهم الإخبار بإهانتهم ثم دل على صحة ذلك بالدليل العقلي لمن يفهمه، فقال مخاطباً لأعلى الخلق وأوقفهم به لأن هذا المقام لا يذوقه حق ذوقه إلا هو كما أنه لا يقوم بتقريره لهم والرفق بهم إلا هو: ﴿قل﴾ أي لهم ولكل من كان مثلهم، وأكد لإنكارهم: ﴿إن الأولين﴾ الذين جعلتم الاستبعاد فيهم أولياً، ونص على الاستغراق بقوله: ﴿والآخرين *﴾ ودل على سهولة بعثهم وأنه في غاية الثبات، منبهاً على أن نقلهم بالموت والبلى تحصيل لا تفويت: ﴿لمجموعون *﴾ بصيغة اسم المفعول، في المكان الذي يكون فيه الحساب. ولما كان جمعهم بالتدريج، عبر بالغاية فقال: ﴿إلى ميقات﴾ أي زمان ومكان ﴿يوم معلوم *﴾ أي معين عند الله، ومن شأنه أن يعلم بما عنده من الأمارات، والميقات: ما وقت به الشيء من زمان أو مكان أي حد.
ولما كان زمان البعث متراخياً عن نزول القرآن، عبر بأداته وأكد لأجل إنكارهم فقال: ﴿ثم﴾ أي بعد البعث بعد الجمع المدرج ﴿إنكم﴾ وأيد ما فهمه من أصحاب الشمال هم القسم الأدنى من أصحاب المشأمة فقال: ﴿أيها الضالون﴾ أي الذين غلبت عليه الغباوة فيهم لا يفهمون، ثم أتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال: ﴿المكذبون *﴾ أي تكذيباً ناشئاً عن الضلال والتقيد بما لا يكذب
ولما كان الشجر معدن الثمار الشهية كالسدر والطلح، بينه بقوله: ﴿من زقوم *﴾ أي شيء هو في غاية الكراهة والبشاعة في المنظر ونتن الرائحة والأذى، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع وعبد الحق في واعيه: الزقم: شوب اللبن والإفراط فيه، يقال: بات يزقم اللبن زقماً، ومن هذا الزقوم الذي ذكره الله تبارك وتعالى، وقالا: قال أبو حنيفة: الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها زفرة لها كعابر في رؤوسها ولها ورد تجرشه النحل، ونورها أبيض ورأس ورقها قبيح جداً، وهي مرعى، ومنابتها السهل، وقال في القاموس: في الدفر بالدال المهملة، الدفر - بالتحريك: وقوع الدود في الطعام والذل والنتن، ويسكن، وقال في المعجمة: الذفر - محركة: شدة ذكاء الريح كالذفرة أو يخص برائحة الإبط المنتن، والنتن وماء الفحل، والذفراء من الكتائب: السهكة من الحديد، والكعبرة بضمتين عين وراء مهملتين: عقدة أنبوب الزرع، وعن السهيلي أن أبا حنيفة ذكر في النبات أن شجرة باليمن يقال لها الزقوم لا ورق لها، وفروعها أشبه شيء برؤوس الحيات، وقال البيضاوي: شجرة صغيرة الورق دفرة مرة تكون بتهامة، وفي القاموس: والزقمة: الطاعون وقال في النهاية: فعول من الزقم: اللقم الشديد
ولما كان من يأكل كثيراً يعطش عطشاً شديداً فيشرب ما قدر عليه رجاء تبريد ما به من حرارة العطش، سبب عنه قوله: ﴿فشاربون عليه﴾ أي على هذا المليء أو الأكل ﴿من الحميم *﴾ أي الماء الذي هو في غاية الحرارة بحث ضوعف إحماؤه وإغلاؤه.
ولما كان شربهم لأدنى قطرة من ذلك في غاية العجب،
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد | صداها ولا يقضي عليها هيامها |
وكنا إذا الجبار بالسيف ضافنا | جعلنا القنا والمرهفات له نزلا |
إذا غيب المرء استسر حديثه | ولم يخبر الأفكار عنه بما يغني |
ولما ذكر هذه اللذاذة، ذكر ما يجمعها وغيرها فقال: ﴿وجنات﴾ أي بستان جامع للفواكه والرياحين وما يكون عنها وتكون عنه.
ولما كان من أصاب السلام على وجه من الوجوه فائزاً، فكيف إذا كان مصدراً للسلام ومنبعاً منه قال: ﴿من أصحاب اليمين *﴾ أي أنهم في غاية من السلامة وإظهار السلام، لا يدرك وصفها، وهو تمييز فيه معنى التعجيب، فإن إضافته لم تفده تعريفاً، وفي اللام و ﴿من﴾ مبالغة في ذلك، فالمعنى: فأما هم فعجباً لك وأنت أعلى الناس في كل معنى، وأعرفهم بكل أمر غريب منهم في سلامتهم وسلامهم وتعافيهم وملكهم وشرفهم وعلو مقامهم، وذلك كله إنما أعطوه لأجلك زيادة في شرفك لاتباعهم لدينك، فهو مثل قول القائل حيث قال:
فيا لك من ليل كأن نجومه | بكل مقار العمل شدت يذبل |
لله در أنو شروان من رجل | ما كان أعرفه بالدون والسفل |
ولما كان المكذب تارة يكون معانداً، وتارة يكون جاهلاً مقتصراً، قال: ﴿الضالين﴾ أي أصحاب الشمال الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها لتهاونهم في البعث ﴿فنزل﴾ أي لهم وهو ما يعد للقادم على ما لاح ﴿من حميم *﴾ أي ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به القادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه ﴿وتصلية جحيم *﴾ أي لهم بعد النزل يصلوا النار الشديدة التوقد صلياً عظيماً.
ولما تم ما أريد إثبات البعث على هذا الوجه المحكم البين، وكانوا مع البيان يكذبون به، لفت الخطاب عنهم إلى أكمل الخلق، وأكد تسميعاً لهم فقال سائقاً له مساق النتيجة: ﴿إن هذا﴾ أي الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم ﴿إننا لمبعوثون﴾ ومن قيام الأدلة عليه. ولما كان من الظهور في حد لا يساويه فيه غيره. زاد في التأكيد على وجه التخصيص فقال:
ولما تحقق له هذا اليقين، سبب عنه أمره بالتنزيه له سبحانه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز بعد تقسيمه للأزواج الثلاثة على طريق الإيجاز كما أمره بذلك بعد الفراغ من تقسيمهم على طريق الإطناب إشارة إلى أن المفاوتة بينهم مع ما لهم من العقول من أعظم الأدلة على الفعل بالاختيار وعلى فساد القول بالطبيعة: ﴿فسبح﴾ أي أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل والصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه عنه نفسه المقدس، ولقصره الفعل لإفادة العموم أثبت الجار بقوله: ﴿باسم ربك﴾ أي المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك عما وصفه به الكفرة من التكذيب بالواقعة، وإذا كان هذا لا سمه فكيف بما له وهو ﴿العظيم *﴾ الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان، وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه لأن من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم، وهذا الكلام الأعز الأكرم، لا ينبغي
مقصودها بيان عموم الرسالة لعموم الإلهية بالبعث إلى الأزواج الثلاثة المذكورة في السورتين الماضيتين من الثقلين تحقيقا لأنه سبحانه مختص بجميع صفات الكمال تحقيقا لتنزهه عن كل شائبة نقص المبدوء به هذه السورة المختوم به ما قبلها الراد لقولهم) أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون) [الواقعة: ٤٧ - ٤٨] المقتضي لجهاد من يحتاج إلى الجهاد ممن عصى رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بالسيف وما ترتب عليه من النفقة ردا لهم عن النقائص الجسمانية وإعلاء إلى الكلمات الروحانية التي دعا إليها الكتاب حذرا من سواء الحساب يوم التجلي للفصل بين العباد بالعدل ليدخل أهل الكتاب وغيرهم في الدين طوعا أو كرها، ويعلم أهل الكتاب الذين كانوا يقولون: ليس أحد أفضل منه، فضيلة هذا الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على جمكيع من تقدمه من الرسل عليهم الصلاة والسلام بعموم رسالته وشمول خلافته، وانتشار دعوته وكثرة أمته تحقيقا لأنه لا حد لفائض رحمته سبحانه لتكون هذه السورة التي هي آخر النصف الأول والتي بعدها التي هي أول النصف الثاني من حيث العدد غاية للمقصود من السورة التي هي أوله عند الالتفات والرد كما كانت السورة التي غاية النصف الأول
سورة الواقعة
سورة (الواقعة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (طه)، وقد جاءت بتذكيرِ الناس بوقوع يوم القيامة؛ للدَّلالة على عظمة الله عز وجل، وترهيبًا لهم من مخالفة أوامره، ودعوةً لهم إلى اتباع الدِّين الحق وتركِ الباطل، وخُتمت السورة الكريمة بتعظيمِ القرآن، وصدقِ أخباره وما جاء به، وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في صلاة الفجر.
ترتيبها المصحفي
56نوعها
مكيةألفاظها
380ترتيب نزولها
46العد المدني الأول
99العد المدني الأخير
99العد البصري
97العد الكوفي
96العد الشامي
99* قوله تعالى: {فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ اْلنُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرْءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكْنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا اْلْمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٨٠ أَفَبِهَٰذَا اْلْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ٨١ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «مُطِرَ الناسُ على عهدِ النبيِّ ﷺ، فقال النبيُّ ﷺ: «أصبَحَ مِن الناسِ شاكرٌ، ومنهم كافرٌ، قالوا: هذه رحمةُ اللهِ، وقال بعضُهم: لقد صدَقَ نَوْءُ كذا وكذا»، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ: {فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ اْلنُّجُومِ} [الواقعة: 75]، حتى بلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]». أخرجه مسلم (٧٣).
* سورة (الواقعة):
سُمِّيت هذه السورة بـ(الواقعة)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظ، ولتسميةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها بذلك:
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: «سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: ما شيَّبَكَ؟ قال: «سورةُ هودٍ، والواقعةِ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}»». أخرجه الترمذي (٣٢٩٧).
و(الواقعةُ): اسمٌ من أسماءِ يوم القيامة.
* سورة (الواقعة) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: «سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ: ما شيَّبَكَ؟ قال: «سورةُ هودٍ، والواقعةِ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}»». أخرجه الترمذي (٣٢٩٧).
* أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الواقعة) في صلاة الفجر:
عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي الصَّلواتِ كنَحْوٍ مِن صلاتِكم التي تُصَلُّون اليومَ، ولكنَّه كان يُخفِّفُ، كانت صَلاتُه أخَفَّ مِن صَلاتِكم، وكان يَقرأُ في الفجرِ الواقعةَ، ونحوَها مِن السُّوَرِ». أخرجه أحمد (٢٠٩٩٥).
1. تحقيق القيامة (١-٥٦).
2. دلائلُ البعث والجزاء (٥٧-٧٤).
3. تعظيم القرآن، وصدقُ أخباره (٧٥-٩٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /598).
مقصدُ سورة (الواقعة) هو التذكيرُ بوقوع يوم القيامة وهَوْلِه، ووصفُ ما يحدُثُ به؛ لتخويف الناس وترهيبهم من معصية الله عز وجل ومخالفة أمره، وفي ذلك دعوةٌ لهم للرجوع إلى الحق، والاستجابة لأمر الله.
ويُبيِّن ابن عاشور محورَها فيقول: «هو التذكيرُ بيوم القيامة، وتحقيق وقوعه.
ووصفُ ما يَعرِض لهذا العالَمِ الأرضي عند ساعة القيامة.
ثم صفة أهل الجنة وبعض نعيمهم.
وصفة أهل النار وما هم فيه من العذاب، وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث.
وإثبات الحشر والجزاء.
والاستدلال على إمكان الخَلْق الثاني بما أبدعه الله من الموجودات بعد أن لم تكن.
والاستدلال بدلائل قدرة الله تعالى.
والاستدلال بنزعِ الله الأرواحَ من الأجساد والناس كارهون لا يستطيع أحدٌ مَنْعَها من الخروج، على أن الذي قدَرَ على نزعها بدون مُدافعٍ قادرٌ على إرجاعها متى أراد على أن يُمِيتَهم.
وتأكيد أن القرآن منزلٌ من عند الله، وأنه نعمةٌ أنعم الله بها عليهم فلم يشكروها، وكذَّبوا بما فيه». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (27 /280).